الإعلام "التخصصي".. الغائب الأكبر عن نهضة البلاد
تعيش بلادنا المملكة وبحمدالله وتوفيقه وبدعم من القيادة الرشيدة "حفظها الله" اليوم واحدة من أعظم مراحل التحول في تاريخها الحديث، حيث تتسارع وتيرة التطور في كافة القطاعات الصحية، التعليمية، التجارية، الزراعية، الاستثمارية، والنقل والخدمات اللوجستية، وغيرها من القطاعات الواعده التي تشكل روافد أساسية لرؤية البلاد 2030.
هذه القفزة لم تعد "اليوم" مجرد خطط مكتوبة، بل واقع ملموس نراه في المشاريع العملاقة، والمبادرات النوعية، والبرامج التي تدار بكفاءة واقتدار.
لكن المعضلة التي يجب أن نعترف بها هي غياب "الصحافة المتخصصة" القادرة على مرافقة هذا التحول والسير معه وقراءة تفاصيله وتحويله إلى محتوى احترافي يثري وعي الرأي العام، ويبرز القيمة الحقيقية لكل منجز.
لقد أصبح من الواضح أن كثيرا من القطاعات تحقق نجاحات مذهلة، ومذهلة جدا .. لكن لا تجد من يوثقها إعلاميا بالعمق والتحليل المطلوب، لأن أغلب الممارسين ما زالوا يعملون في إطار الصحافة العامة، لا "الصحافة المتخصصة" التي تتطلب معرفة دقيقة بالمصطلحات والسياسات والاتجاهات العالمية في كل مجال.
هنا .. أتذكر قبل نحو عشرين عاما، وأكثر كيف كان في الساحة الإعلامية صحفيون متخصصون بارزون في مجالات متعددة في التعليم، والصحة، والنقل، والأمن، والاقتصاد، وغير ذلك من القطاعات الحيوية.
كانت تلك المرحلة تتميز بحدة التنافس الشريف بين الصحفيين في كيفية الوصول إلى المعلومة والانفراد بها في اليوم التالي، وكان كل إنجاز صحفي يقاس بقدر ما يضيف من معرفة للرأي العام، لا بعدد المشاهدات أو التفاعلات.
هؤلاء "الصحفيون" شكلوا جسورا بين تلك الجهات والرأي العام، نقلوا الحقائق بعمق وتحليل، وساهموا في بناء وعي مجتمعي متزن، أما اليوم، في تقديري فقد تراجعت تلك النماذج الناضجة العملاقة، وغابت عن المشهد الصحفي، لتحل محلها تغطيات سطحية لا تعبر عن حجم المنجز الوطني ولا عن قيمته.
وهنا أحب أن أشير إلى أن الجهات والمنظمات والهيئات الحكومية باتت تمتلك اليوم منصات متعددة وفرقا إعلامية محترفة تدير محتواها عبر مختلف الوسائط الرقمية، وهو تطور جيد ومطلوب، لكنه لا يكفي ولا يغني عن وجود صحفيين متخصصين مستقلين قادرين على تحليل تلك المنجزات وقراءتها بلغة المهنة، ونقلها للرأي العام بمنهج نقدي بناء يثري التجربة ولا يكرر الخطاب الرسمي الروتيني.
والملاحظ أن أغلب المنظمات الحكومية والهيئات انتهجت في السنوات الأخيرة نهج الاكتفاء بالبيانات الصحفية وتوزيعها عبر منصاتها المختلفة، وإن كان هذا السلوك يعد خطوة جيدة في تحسين التواصل مع الإعلام، إلا أنه لا يعوض أهمية وجود صحفيين متعمقين متمرسين يمتلكون الخبرة الكافية في كل قطاع حيوي ناجز، القادرين على قراءة تلك البيانات بعمق وتحويلها إلى قصص إعلامية تبرز الأثر لا الحدث فقط.
أشير هنا إلى أن ما يقارب 90٪ من الزملاء الصحفيين غادروا المهنة خلال السنوات الأخيرة، لأسباب متعددة، في مقدمتها الأوضاع المالية الصعبة التي تمر بها بعض المؤسسات الصحفية التقليدية، وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه الكوادر الإعلامية، فضلا عن التحولات التقنية التي قلّصت من حجم الوظائف الصحفية المتاحة.
وقد دفعت هذه الظروف كثيرين إلى التوقف عن "الركض الصحفي اليومي" في حين البعض فضل الانتقال نحو وظائف خدمية أو إدارية في قطاعات أخرى، بعضها قريب من الإعلام وبعضها بعيد تماما، لتفقد الساحة الصحفية بذلك ثروات وخبرات تراكمت عبر عقود زمنية طويلة من العمل والتنافس والاحتراف.
إن غياب الصحفيين المتخصصين لا يعني فقط نقصا في المهارة، بل يمثل فجوة استراتيجية تفقد المجتمع روايته الوطنية من الداخل، فكما نملك مهندسين وأطباء واقتصاديين أكفاء، نحن بحاجة إلى إعلاميين متخصصين في الثقافة ، الطب، والاقتصاد، والتعليم، والطاقة، والاستثمار، والصناعة يقدمون المحتوى بلغة تجمع بين الدقة والمصداقية والمعرفة.
ولذلك فإن المسؤولية اليوم تقع على عاتق الجهات ذات العلاقة من وزارات، وهيئات إعلامية، ومؤسسات تعليمية، وجامعات للالتفات بكل جدية نحو هذا الخلل الكبير، ووضع برامج تدريبية وتطويرية تعيد تأهيل الصحفيين، وتستقطب الجيل الجديد نحو التخصص الإعلامي.
فالإعلام المتخصص لم يعد ترفا ولا حتى خيارا ثانويا ، بل هو ضرورة وطنية لتوثيق الحاضر وصناعة الوعي بالمستقبل.