اللغة العربية لا تهمني!!
لا أعتقد أن هناك من يجادل في ضرورة تعلم اللغات العالمية بصورة عامة، والإنجليزية بصفة خاصة؛ باعتبارها أكثر اللغات الحية أهمية، وأنها بوابة رئيسية لاكتساب العلوم والمعارف، ولاسيما لشريحة الشباب وطلاب الدراسات العليا. كما أن اكتساب اللغات العالمية يمنح الإنسان القدرة على مواكبة العالم الخارجي، والاطلاع على آخر المخترعات والأجهزة الحديثة. كذلك فإن الإلمام باللغات العالمية يبقى مطلبًا وحاجة أساسية للتفاعل مع العالم كجزء من التقدم والتطور وتنمية المهارات، والاطلاع على الثقافات الأخرى.. وكل هذا لا خلاف عليه، وتحضرني في هذا المقام المقولة الخالدة "من عرف لغة قوم أمن شرهم".
لكن في المقابل أرى أن هناك مبالغة في هذا الأمر، بل إن هناك من لا يمتلك من الشهادات العلمية أو المهارات العملية ما يؤهله للمنافسة على كثير من الوظائف، لكن يتم تفضيلهم على غيرهم لمجرد أنهم يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، ويدخلون مفرداتها في أحاديثهم بصورة متعمدة ومفتعلة كنوع من التباهي، بل إن بعضهم وصلت به الجرأة للقول إن اللغة العربية لا تهمهم، وإنهم سوف يحوّلون أبناءهم الطلاب إلى مدارس عالمية للدراسة بالإنجليزية أو الفرنسية!
المدهش في الأمر هو أن كثيرًا من تلك الوظائف لا تحتاج لمهارة التحدث بلغات أجنبية، ورغم ذلك توضع ميزة إجادتها كشرط رئيسي، رغم أن ذلك لا يعني بالضرورة التفوق والنبوغ كما يتصور البعض؛ فالمهمة الأساسية للغات هي تسهيل التواصل ونقل المعلومات؛ فالطبيب غير الماهر مثلاً لن يكون مقنعًا أو ناجحًا في عمله حتى ولو كان يتحدث جميع لغات الدنيا، وكذلك المهندس الذي لا يتقن أساسيات مهنته لن يستطيع تشييد مبانٍ آمنة أو طرق بمواصفات عالية مهما كان عدد اللغات التي يتحدث بها.
ولتأكيد أن الأمر تحوَّل إلى حالة من "البرستيج" والمفاخرة تكفي الإشارة إلى العديد من المؤتمرات والندوات التي تقيمها مؤسسات حكومية وأخرى من القطاع الخاص؛ إذ تكون لغة الخطابة فيها والكلمات الرئيسية بالإنجليزية، رغم أن غالبية الحضور من المجتمع المحلي، أو من الدول العربية الشقيقة. فما هو المبرر المنطقي لذلك؟ ربما يرى البعض أن هناك خبراء أجانب يشاركون في هذه الفعاليات، ولا بد من منحهم الحرية في التحدث باللغة التي يختارونها، لكن تلك حجة في غير محلها كما يقولون؛ فهؤلاء يمكن أن يتحدثوا بما يشاؤون شريطة توفير معينات الترجمة للحضور حتى تعم الفائدة، ولكن لماذا نتحدث نحن فيما بيننا بلغة ليست لغتنا؟!
الشيء الأكثر غرابة هو أن كثيرًا من الوزارات والمؤسسات الحكومية تقوم بذلك رغم وجود قرار رسمي من مجلس الوزراء بتاريخ 24 إبريل 2018 باعتماد العربية لغة رسمية في المؤتمرات والندوات التي تُنظَّم داخل السعودية؛ وهو ما يعكس العناية الكبيرة التي توليها السعودية لتعزيز وجود اللغة العربية التي تعتبر -بدون شك- إحدى أهم وأبرز السمات والمكونات الوطنية التي ترتبط بها.
هذا الاهتمام المبالَغ فيه باللغات العالمية أولى به لغتنا العربية الجميلة التي نفخر بأنها انطلقت للعالم كله من أرضنا؛ فهي هويتنا وأبرز خصائصنا، وقد بذلت قيادتنا الرشيدة طيلة العقود الماضية جهودًا متواصلة للاهتمام بها ونشرها، ويكفي ما يقدمه مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، ومركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية، وكذلك المجامع اللغوية الكبيرة المنتشرة في بلادنا.
وأختم بالقول إنني لا أدعو للعزلة، ولا أشجع على الانكفاء، وأؤمن بضرورة الاهتمام والتفاعل مع ثقافات العالم كافة؛ فنحن جزء منه؛ نتأثر به ونؤثر فيه؛ ونحتاج لتعلُّم أبنائنا جميع اللغات الحية لأغراض التعلم والتدريب والتفاعل.. لكن أن نهمل لغتنا الأم التي نشأنا عليها، وارتبطنا بها، وأن نتبرأ منها ونتجاهلها، فهذا لا يعني غير الهزيمة النفسية والاستلاب والذوبان في ثقافات الآخرين وحضاراتهم.