بين الصدام والتفاهم: ملامح هندسة جديدة!!

تم النشر في

التوازن الاستراتيجي الراهن الذي يُحاك في الشرق الأوسط ؛ لا يقوم على صراع صفري، بل على شبكة تقاطعات مصالح:

            -واشنطن لا تستطيع الانسحاب الكامل، لكنها لم تعد تهيمن وحدها.

            -موسكو تملك أوراقًا لكنها لا تسعى للقيادة الشاملة.

            -بكين تتقدم بثبات صامت، دون استفزاز.

            -العواصم الإقليمية تقرر أكثر، وتنتظر أقل.

هذا المشهد المركّب أنتج نوعًا من “الردع المتبادل الناعم”؛ حيث لا يستطيع أي قطب أن يفرض إرادته منفردًا، في حين يدرك الجميع أن الانزلاق إلى الفوضى الشاملة لم يعد خيارًا قابلًا لتحمل تكلفته ، يقول ونستون تشرشل: “القوة بلا توازن تؤدي إلى حرب، والتوازن بلا قوة يؤدي إلى فوضى"أي لا بد من تلازم الردع مع العقلانية السياسية.

لم يعد الشرق الأوسط اليوم ساحة صراعات تقليدية فحسب، بل بات مسرحًا لإعادة هندسة التوازنات الكبرى ضمن منظومة عالمية آخذة في التشكل.

الصين تختلف عن بقية الأقطاب في أنها لا تسعى إلى تصدير نموذج سياسي أو عسكري، بل إلى بناء نفوذ اقتصادي طويل الأمد.

 مبادرة “الحزام والطريق” جعلت المنطقة جزءًا من شبكة الربط التجاري العالمي.

"بكين " تتحرك بإيقاع ناعم، وتفضل الشراكات الهادئة التي تبني اعتمادًا متبادلاً بدلاً من التحالفات الصلبة، ما يمنحها قوة تأثير ناعمة تتزايد بمرور الوقت.

في مقابل هذه القوى الكبرى، بدأت القوى الإقليمية (مثل السعودية، إيران، تركيا، مصر، والإمارات) في إعادة صياغة أدوارها بعيدًا عن التبعية المطلقة لأي محور خارجي. هذه الدول لم تعد مجرد أوراق على رقعة شطرنج دولية، بل لاعبين يملكون أوراقهم الخاصة: من الطاقة والموارد المالية إلى الجغرافيا السياسية والموقع الحضاري.

هذا الصعود الإقليمي الذكي ؛  يمنح التوازن طابعًا متعدد الأقطاب فعليًا، ويقلص هامش الاحتكار الخارجي.

في النهاية، ما يميز التوازن الاستراتيجي الراهن في الشرق الأوسط هو أنه ؛ ليس ثابتًا، بل أقرب إلى رقصة سياسية متقنة الإيقاع، تتحرك فيها الأقطاب الأربعة "العالمية والإقليمية "بخطوات محسوبة.

هذا التوازن لا يمنع التوترات، لكنه يحاصر الانفجار ويُبقي الباب مفتوحًا أمام هندسة تفاهمات مرنة.

الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة: لا غلبة لأحد، ولا انسحاب لأحد، بل توازن معقّد… ناعم الملمس، عميق الجذور، يقول الماوردي (في الأحكام السلطانية): “إذا كانت الدولة قوية بغير عدل، انهارت بقوتها، وإذا كانت عادلة بغير قوة، ضاعت بعدلها" بمعنى لا قيام للدولة إلا بتوازن القوة والعدل معًا.

إن التوازن الرباعي في الشرق الأوسط ليس صيغة نهائية، بل حالة ديناميكية متحركة تتغير وفق تفاعل الأقطاب العالمية والإقليمية.

ما يميز هذه المرحلة أن المنطقة لم تعد مجرد ساحة نفوذ خارجي، بل باتت مساهمًا في إنتاج معادلة التوازن ذاتها.

وفي ظل هذه الشبكة المتداخلة من المصالح ؛ يصبح الصدام الشامل مكلفًا، والتفاهم المرن هو الخيار الأكثر واقعية.

تقوم هذه المعادلة الجدلية الجديدة على توازن دقيق بين الشدّ (القوة) والارتخاء (المرونة).

فالقوة تمنح الفاعلين أوراق ضغط، والمرونة تتيح لهم استثمار هذه الأوراق بذكاء سياسي.

هذه الجدلية تعني:

            -لا يمكن لأي طرف أن يفرض إرادته بالقوة الخالصة.

            -ولا يمكن لأي وفاق هش أن يصمد من دون مظلة ردع.

النتيجة هي هندسة صراع منضبطة تسمح بمساحات تفاهم محسوبة تحت سقف القوة.

القوى الإقليمية الذكيَّة الكبرى الصاعدة  (السعودية، إيران، تركيا، مصر، الإمارات) لم تعد مجرد متغير تابع ، بل أصبحت تمتلك أدوات التأثير في أسواق الطاقة والتمويل ، والتحكم في ممرات استراتيجية ومواقع جغرافية حساسة ، مع انتهاج سياسات خارجية أكثر استقلالية عن المراكز الكبرى.

هذا الصعود المحلي يُعيد تشكيل التوازن من الداخل، ويمنح الشرق الأوسط موقعًا تفاوضيًا جديدًا على المسرح العالمي، يقول هانز مورغنثاو (منظّر الواقعية السياسية): “الاستقرار الدولي هو نتيجة توازن دقيق بين قوى متنافسة، وليس نتيجة انسجام مثالي". بمعنى أنَّ التوازن لا يعني السلام المطلق بل منع الانهيار.

ومقولة كينيث والتز (نظرية توازن القوى)تؤكد ذلك : “عندما تتوزع القوة بين عدة أطراف متكافئة، تقل احتمالات الحرب.” بمعنى أنَّ التوازن هو أداة لردع المغامرات العسكرية!!

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org