هل صارت حياتك ترند؟!

تم النشر في

أتذكّر مشاعري في كل مرة أزور فيها عمّي الكبير. لبيته بصمة خاصة في كل زاوية، يتجدّد فخره بها مع كل زائر، وكأن الفن الذي يزيّن أركانه قد نُسج بحب وفردانية، ومُزج بلمساته الخاصة ونظرته المتفرّدة. كنت أستمتع بتأمل التكوين غير المكرر لجدرانه وزواياه وتفاصيل أثاثه. ولا عجب أن يفخر به، فقد شكّل هويته على شكل منزل يشبهه، لا يتكرر في أي مكان آخر، ولا حتى في كبرى متاجر الأثاث.

إنه يتغنّى بتلك البصمة، وينتشي سعادة في كل مرة يحكي قصص القطع المختارة ورؤيته في التصميم. لم يكن عمّي مهندساً معمارياً ولا فناناً تشكيلياً، لكنه امتلك ذائقة خاصة وهوية واضحة تمسّك بها، فصاغ منزلاً يشبهه.

اليوم، لم تعد البيوت فقط تتشابه، بل صارت الحياة كلها مكرّرة. الكل يتبع منهجاً واحداً: ديكورات المنازل متشابهة، المقتنيات تسير وراء “هبّة” مؤقتة، والأذواق صارت مستنسخة. حتى بات كثيرون لا يعرفون ما يحبون فعلاً وما يكرهون؛ لأن قراراتهم تُساق خلف الأكثر مبيعاً أو الأكثر إعجاباً.

لا شك أن التسويق المتطور ساهم في تشكيل هذا “القطيع”. ولا أبرّئ نفسي من ذلك. لكن الأمر لم يتوقف عند الأثاث والأزياء والأواني. بل تسلّل إلى أعمق من ذلك: إلى القيم والأفكار والمبادئ والعادات وحتى الوظائف والتخصصات!

لكل قارئ هنا:

اسأل نفسك بصدق— متى تشعر بأنك حي فعلاً؟

متى يختفي الإحساس بالوقت وأنت منهمك في نشاط تحبّه؟

إنّ مثل هذه الأسئلة تقودك لاكتشاف بصمتك الخاصة. فلا تمضِ خلف القطيع فقط، فالأكثريّة ليست بالضرورة الخيار الأفضل. تريّث، وثِق بذاتك، واختر ما يشبهك: في ملبسك ومطعمك وعاداتك وحتى صداقاتك وجميع مناسك حياتك.

إنّ صاحب البصمة الخاصة لا يحتاج أن يُثبت نفسه. فكاريزما حضوره تكفي، لأنه متسق مع ذاته، معتز بهويته، مفتخر بقيمه ولمساته التي لا تتكرر. وعندما يشبه الإنسان نفسه، لا الآخرين، يكون أكثر راحة وسلاماً داخلياً، وأكثر قدرة على الابتكار والتفرد.

في إحدى رحلاتي الصيفية، اخترت قطعة حلوى أعجبتني لأصوّرها مع خلفية المكان. سألتني سيدة بدهشة: “هل هذا الحلى هبّة؟!” وكأن القيمة تُقاس فقط بكون الشيء ترند، لا بذائقتنا ولا بشهيّتنا ولا رغبتنا في لحظتها. هذا النّهم للّحاق بالترند التهم الذائقة الفردية، وقلّص تقدير الذات. بينما الثقة الحقيقية هي أن تتباهى باختلافك، وتتمسك بقيمك ولمستك الفريدة التي وهبك الله إياها.

فلنربِّ أبناءنا على التميّز والاعتداد بأنفسهم، لا على اتباع “هبّة” جديدة كل يوم. لأن التربية التي تُستنسخ من الترند، تخرج جيلاً يذوب في الآخرين ولا يجرؤ أن يكون نفسه.

قال رسول الله ﷺ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» (رواه مسلم).

وتذكّر .. إذا كنت نسخة من غيرك، فمن سيعيش قصتك؟

*هبّة: مفردة عامية في اللهجة السعودية تعني شائع جداً ومنتشر، مرادفة لكلمة ترند.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org