لعبة الأدوار

تم النشر في

تخيَّل معي مطعمًا يُديره شخص ومعه فريق، الشيف ومساعد الشيف والنادل وموظف الاستقبال ومسؤول المشتريات وفني الصيانة، وما إلى ذلك من أدوار مهمة لاستمرارية عمل هذا المطعم. ولكن ماذا لو كان الشيف ذا مهارات عالية وحنكة، حتى أنه صار يستمتع بإدخال الأطعمة على الزبائن؟! وأحيانًا يذهب بنفسه لشراء الحاجيات، وفي أيام يجد نفسه متشوقًا لمقابلة الناس عند البوابة، والترحيب بهم بنفسه، وفي أوقات يدخل ويُصلح بعض الأعطال في دورة المياه وبعض الأثاث المتضرر، حتى أنه لا يتوانى عن الرد على استفسارات خدمة العملاء، ويجيد الرد عليهم بمهارة! كيف تعتقد سيكون أداء المنظومة؟ وهل سيتطور مستوى المطعم أم سيتدهور؟ وكيف ستغدو حالة الشيف مع مرور الوقت؟ هل سيكون له فرص لابتكار وصفات جديدة؟ هل سيكون مرتاحًا متسقًا مع ذاته؟ أم متشتتًا، متعبًا؟ ثم شيئًا فشيئًا يشعر بالنفور من هذه البيئة التي تعتمد عليه اعتمادًا مطلقًا بكل شيء؛ فيبدأ بالحنق والتسخط، حتى يستشيط غضبه في مواقف تافهة، وتبدأ الصدامات مع مَن حوله، وربما الاتهامات "أنتم لا تجيدون فعل شيء"!

وما هو موقف الموظفين الآخرين؟ وكيف ستتأثر أدوارهم بذلك؟ هل سيكون التكاسل والتراخي والاعتمادية؟ أم السخط والتصادم مع ذلك الشيف الأخطبوط؟ وما هي النهاية المتوقعة لمثل تلك الديناميكية في هذا المطعم إذا استمرت على هذا المنوال؟

مما لا شك فيه أنك للوهلة الأولى اعتقدت تمامًا، مثل مدير المطعم، أن ذلك الشيف بارع وذكي ونشيط أيضًا، ولكن مع مرور الوقت بدأت تطفو مشاكل غير مفهومة، وتراكمات أدت للانفجار بين الموظفين، وربما انهيار المطعم!

إن توزيع الأدوار والمهام لا يقتصر فقط على الشركات التجارية والمؤسسات وأماكن العمل، بل هو في كل مكان طالما يوجد هناك بشر وحياة قائمة. فكل شخص يشغل دورًا مهمًّا في منظومته، والأسرة منظومة أساسية في المجتمع، ومدرسة يتعلم فيها الأفراد فكرة الأدوار وماهيتها، وأهميتها لسير المركب بنجاح وسلام.

والآن لنُسقط ما حدث في المطعم على العائلة، ولنتخيل الأم مكان ذلك الشيف الأخطبوطي، تقوم بكل الأدوار في المنزل، ومن ضمنها دور الأبناء في الاعتماد على أنفسهم، ودور الأب في كونه السلطة التي تمثل القانون في البيت، ودور الابن في الدراسة وحل المشكلات والتفكير، بل حتى في الأكل! إن تلك الأم في قرارة نفسها تعتقد أنها أُم مجتهدة ومثالية ربما، وأنها "ما قصرت بشيء أبدًا"، وربما يعزز المجتمع ومَن حولها ذلك "ما شاء الله عليها سنعة"، "مدبرة وماسكة كل البيت".

ولكن سرعان ما تنهار خيبات الأمل عليها عندما تتكاثر المهام، وتتراجع الصحة والنشاط، ويصبح الحِمل أثقل حتى يصل لمرحلة عدم التحمُّل؛ لأن رقعة الخلل اتسعت، ومشاكل لعبة الأدوار صارت الآن أكثر وضوحًا.

وقد يصبح الأب هو الأخطبوط كذلك بشكل آخر، عندما يتخذ جميع القرارات عن الأبناء، ويصبح ديكتاتوريًّا في فرض الأنظمة، ولا يتيح مجالاً للمناقشة وتوزيع الأدوار لمساعدته، ويصرُّ بكل عنجهية على تحمُّل العبء كله، وأبناؤه مثل الضيوف بأدوار هامشية لا تُذكر، أما زوجته فهي بنظره لا تعرف ولا تفهم، أو لا تستطيع.

إن اختلال توزيع الأدوار يمثِّل كارثة حقيقية في أي بيئة، وعدم الالتزام بالمهام مُنافٍ للتقدم والتحسن، ويستحيل أن تتقدم أي منظومة لا يقوم كل فرد فيها بدوره بشكل مركز ومتقن.

في الحقيقة، سنجد الكثير من العائلات المعطوبة بسبب لخبطة الأدوار؛ فعندما يظهر الأخطبوط يتبعه -بلا شك- المتكاسل والمتلاعب والمتذمر والمنسحب، بل حتى المظلوم.

وقد يُسمح بأخذ الأدوار بشكل مؤقت أو أحيانًا بشكل دائم، في حال غياب الشخص لمرض أو فقد، وما عدا ذلك يجب أن يكون لكل فرد من الأسرة مكانه المناسب، ودوره المكلف به.

فعندما تلعب الفتاة -على سبيل المثال- دور الأم مع الإخوة، وتملأ أدوار والدتها مع الأب في الحوار وإصلاح المنزل وتحمُّل مسؤولية المشتريات، ستصل لمرحلة يحدث فيها خلل ما؛ لأنها بكل بساطة ليست الأم. وفي مثل هذا السيناريو لا عجب أن نجد الأم وقد انسحبت وتقلصت مكانتها بلا وعي منها، ولاسيما إذا كانت سمات شخصيتها تُعزِّز ذلك الانسحاب. وقد يتشوَّه المشهد، وتضيع الفتاة في ركام الدور الذي اعتادته منذ الصغر، وتبدأ التصادمات والمنافسة الخفية على كسب قلب الأب، حتى تفيق يومًا لتعيد ترتيب الأدوار.

وعندما يلعب الأخ الأكبر كل الأدوار، ويسحب البساط من إخوته الآخرين، تظهر هنا الشخصيات الاعتمادية والساخطة، وربما الغيورة.

لعبة الأدوار حساسة للغاية، وخفية، وقد تتشوه تدريجيًّا دون انتباه من أفراد الأسرة، ودون نوايا سيئة؛ لأن ما يدفعها في البداية هي رغبة جيدة بحل الأمور بشكل سريع، وبآلية مريحة ومناسبة للشخص، ولكن علينا دائمًا أن نتساءل: هل مَن قام بالمهمة هو الشخص المعني بذلك؟ أم ثمة تجاوز ما؟

راجع نفسك ومحيطك عزيزي القارئ، وما دورك في عائلتك؟ هل توزيع الأدوار متكافئ وكلٌّ له مكان ومهام تتناسب مع موقعه وعمره واحتياجاته؟ كيف كان دورك في الماضي في أسرتك مع والدَيك؟ هل ما زال التنظيم الخاطئ يؤثر عليك حتى اليوم؟ وكيف هو ذلك التأثير؟ هل تجد نفسك تحمل همَّ الأسرة بأكملها حتى إنك صرت تهمل أولويات عائلتك الصغيرة؟ ما الدافع الحقيقي للدور الذي تتطفل عليه؟ وكيف يمكن أن يتعبك مستقبلاً؟ أو ربما بدأ بذلك فعلاً؟ وماذا لو أدركت الخلل؟

تهانينا، فهذا بحد ذاته علامة جيدة لبدء تصحيح المسار، وكل ما عليك هو أن تؤدي ما هو ضمن حدود مسؤولياتك، ولا تفعل ما يقع ضمن مسؤوليات الآخرين.

أفسح المجال لهم، ولا تخف؛ لن يحدث شيء سوى أن كل فرد بطريقة ما سيشعر بأن هناك دورًا فارغًا بحاجة للامتلاء، ولو لم يكن هناك دور مهم سيتلاشى، وتتفرغ أنت لما هو أهم منه.

أما إذا كنت فردًا منسحبًا ومتواكلاً بسبب وجود أخطبوط في محيطك الماضي فاعلم أن المشكلة ليست بقلة مهاراتك، ولا لسوء فيك، وإنما لخلل في لعب الأدوار نشأت فيه، واعتدت هذا النمط؛ فبادر الآن باستعادة دورك في حياتك، ولا تدع مسؤولياتك لغيرك؛ فقد تُثقلهم يومًا ما، ويتركونها، ثم تقف في منتصف الطريق خالي الوفاض!

ضع قدمَيْك بالمكان الصحيح، وتفانَ في عطائك عندما يكون في البؤرة المناسبة فقط؛ حتى لا تثقل خطاك في لحظة ما، وتتعرقل عن إكمال المسير.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org