انتبه من إنجازات جَلْد الذات والاحتراق النفسي!

انتبه من إنجازات جَلْد الذات والاحتراق النفسي!

قرأت كلمات للطبيبة النفسية إلين كندي مور، بعثت تساؤلات وأفكارًا عدة، جاء فيها: "إن إنجازاتك المحققة ليست نقطة النهاية، ولكن يجب أن تكون هناك إنجازات أخرى مستمرة، تساعدك على النمو والتعلم". من تلك التساؤلات: هل يعقل أن يكون هناك إنجازات تساعدنا على النمو والتعلم، وأخرى ﻻ؟ هل يمكن أن تكون بعض الإنجازات نقيضًا للتعلم، ونطلق عليها مسمى "إنجازات"؟! وبقليل من البحث والتقصي، والمزيد من القراءة، وجدت أننا عندما نتحدث عن الشخصية المتطلبة للكمال فإن الجواب هو "نعم"!

عرَّفت المنظمة الأمريكية للصحة النفسية الشخصية المتطلبة للكمال على أنها: "الميل إلى الطلب من الآخرين أو النفس مستوى مرتفعًا جدًّا من الأداء، وفوق المطلوب. وغالبًا ترتبط الشخصية المتطلبة للكمال بالاكتئاب والقلق واضطرابات الأكل، ومشاكل نفسية أخرى".

وعلى الرغم من أن البعض قد يعتقد أن أصحاب هذه الشخصية ناجحون في أعمالهم، ومخلصون في أدائها، إلا أنه من المهم الإشارة إلى أننا ﻻ نقصد هنا "المثالية" كوصف مجرد، بل نتحدث عن مراحل متقدمة. مَن تطلب المثالية (الكمال) ارتبط باضطرابات نفسية عدة، تعيق العمل والنجاح.

نشرت مجلة Psychological Bulletin دراسة، شملت واحدًا وأربعين ألفًا وستمائة وواحدًا وأربعين طالبًا وطالبة جامعيين في كل من أمريكا كندا وبريطانيا، ووجدت أن معدل الشخصية المتطلبة للكمال ارتفع خلال العقدين الماضيين، وأنها ارتبطت بالقلق والاكتئاب والأفكار الانتحارية؛ لأن القلق الذي ينتج من التطلب للكمال ينعكس على صحة الطالب؛ فيسبب الأرق والإنهاك والصداع المزمن؛ وهو ما يؤثر على الأداء الأكاديمي، ويعيق المشاركة الفاعلة والتعبير عن النفس والأفكار.

وقد يفاجَأ البعض عندما يعلم أن الشخصيات المتطلبة للكمال تتسم بقلة الإنتاجية نظرًا للجهد الذي يبذلونه والضغط الكبير الذي تسببه المهام التي يُكلفون بها. هم في العادة يحتاجون إلى وقت أطول في إنجاز المهام التي ينجزها غيرهم في فترة وجيزة. ومثل هذه الحالة تعتبر عائقًا كبيرًا للفئة التي تحتاج لمذاكرة عدد كبير من المحاضرات، وتسليم الكثير من الواجبات، وتقديم الكثير من العروض.

الجانب الآخر أن المتطلبين للكمال يتسمون بحساسية مفرطة تجاه أخطائهم؛ وهو ما يحد ويعيق مشاركتهم في النقاشات والحوارات مع زملائهم؛ وبالتالي الحرمان من فرصة التعلُّم من أخطائهم.

من هنا أقول إنه ليس كل إنجاز هو -في الحقيقة- إنجازًا، بل قد يكون مجرد محصلة لسلسلة من جَلْد الذات والاحتراق الداخلي والخوف من النقد.. وبطبيعة الحال الاستمرار في هذه السلسلة هو تدمير للذات، وإرهاق للنفس، قد تكون نتائجه سيئة على المدى الطويل.

كم سمعنا عن طالبات وطلاب يبذلون جهودًا مضنية، يرافقها تصميم قوي لبلوغ المثالية والكمال، ثم ينتهي بهم المطاف إلى الانسحاب من التخصصات التي التحقوا بها عن حب ورغبة وشغف؛ ليس لأنهم وجدوا طريقًا آخر أفضل، بل لأنهم غرقوا في الإحباط والقلق، ونتائج لا تتواكب مع متطلبات الكمال، بل هناك من انتهى بهم المطاف إلى ما هو أسوأ، خاصة عندما ترك المقاعد الجامعية نهائيًّا.

إن الإنجاز الحقيقي هو ما يضيف إلينا قيمة علمية ومعرفية وحياتية جديدة، ﻻ تلك التي تجعلنا نلهث وكأننا في مضمار من السراب والوهم.. هي تلك الرحلة التي نتعلم خلالها تجربة جديدة، تضيف إلى خبراتنا المزيد من المهارات، وتصقل شخصياتنا، وتُنمِّي قدراتنا ومواهبنا، دون أن تُدمِّرنا، وتُحطِّم سلامتنا الجسدية والنفسية.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org