الحظ.. هل هو صدفة أم نتيجة؟

تم النشر في

في لحظة عابرة، يدخل أحدهم سحبًا في مول، ويخرج بجائزة كبرى، وفي اللحظة نفسها، شخص آخر أمضى سنوات في الدراسة والتخطيط والاجتهاد، دون أن تفتح له الحياة بابًا واضحًا.

الحظ.. تلك الكلمة التي نحمّلها أحيانًا نجاحنا، وأحيانًا خيبتنا. نصف بها الآخرين عندما يتقدّمون فجأة، ونواسي بها أنفسنا عندما تتأخر خطواتنا. لكن، هل الحظ مجرد صدفة؟ أم أنه أكثر تعقيدًا مما نتصوّر؟

ما بين "الحظ الأعمى" الذي يأتي بلا موعد، و"الحظ المتحرّك" الذي يظهر حين نتحرك، و"الحظ الذكي" الذي نراه حين ننتبه، و"الحظ الموجّه" الذي نصنعه بأنفسنا.. تتعدد وجوه الحظ كما تتعدد حكايات الناس معه. وربما لم يكن الحظ يومًا شيئًا خارجًا عنا تمامًا، بل كما جاء في القرآن الكريم:

﴿وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظّ عظيم﴾ [فصلت: 35]

فهل يكون الحظ أحيانًا، صبرًا؟ أو مهارة؟ أو حضورًا ذهنيًا؟

في هذا المقال، نقترب من مفهوم "الحظ" من منظور نفسي، بعيدًا عن التفسيرات السطحية، لنفهم ما يمكن التحكم به، وما يبقى للقدر. في الجلسات النفسية، كثيرًا ما أسمع هذه الجملة: "أنا مو محظوظ/ة في الحياة". تُقال أحيانًا بعد تجربة مهنية قاسية، أو بعد علاقة لم تكتمل، أو حتى بعد سنوات من الاجتهاد لم تُترجم إلى نتائج.

والحقيقة أن الحظ ليس شيئًا واحدًا، بل هو مفهوم واسع، تُخفي تفاصيله النفسية خلف كلمة تبدو بسيطة.

يشبه الحظ الأعمى ما يحدث حين تكون في المكان الخطأ، لكن في التوقيت الصحيح. مثل من تصله ترقية غير متوقعة، أو يقابل شخصًا يفتح له بابًا جديدًا دون مقدمات. لا يمكن التنبؤ به، لكنه حقيقي، ويحدث. أما الحظ المتحرّك فنراه عند أولئك الذين يواصلون المحاولة رغم الانتكاسات. أشخاص لم يصلوا من أول مرة، لكن مجرد استمرارهم في الحركة جعل الحياة تفتح لهم طريقًا ما. مثل شخص حضر فعالية لا يعرف أحدًا فيها، فخرج منها بفرصة مهنية أو شراكة لم تخطر على باله.

وهناك الحظ الذكي، الذي يُشبه قدرتنا على التقاط التفاصيل التي لا يلاحظها الآخرون. كمن يلاحظ احتياجًا صغيرًا في السوق، أو فجوة في علاقة، أو فرصة في منتصف أزمة. لا يأتي هذا النوع من الحظ إلا لمن كان ذهنه حاضرًا، ونفسه مرنة.

وأخيرًا، الحظ الموجّه، وهو الحظ الذي لا يبدو واضحًا للآخرين، لكنه نتيجة اختيارات دقيقة، وتراكمات صغيرة بُنيت على وعي. هو الحظ الذي لا يُروى في قصة قصيرة، لأنه لا يعتمد على لحظة.. بل على مسار.

في النهاية، قد لا نتحكم في الحظ الأعمى، لكننا نملك أن نصبح أكثر وعيًا بالحظ الذي نُصادفه، أو نصنعه. لأن "الحظ" ليس دائمًا ما يحدث لنا... أحيانًا، هو كيف نستقبل ما يحدث.

في علم النفس، لا يُنظر إلى "الحظ" كمجرد حدث خارجي، بل كطريقة داخلية لتفسير ما يحدث. فكيف نرى الحظ؟ وما الذي يجعلنا نصف أنفسنا أو الآخرين بالمحظوظين أو العكس؟

أحيانًا، نميل إلى وصف نجاح الآخرين بالحظ كنوع من الدفاع النفسي. لأن الاعتراف بأنهم اجتهدوا أكثر، أو غامروا أكثر، أو صبروا أكثر، قد يكون مؤلمًا، خصوصًا حين نشعر أننا لم نحصل على ما نستحق، والعكس أيضًا صحيح، فقد نُرجع إخفاقاتنا إلى "سوء الحظ" هربًا من مواجهة مشاعر التقصير أو الإحباط.

هذا التفسير لا يعني أننا نخدع أنفسنا، بل يعني ببساطة أن عقولنا تبحث دائمًا عن معنى، و"الحظ" في كثير من الأحيان، هو المعنى الأسهل.

كما تشير بعض النظريات إلى أن الشعور بالحظ يرتبط جزئيًا بتقدير الذات. فكلما شعر الإنسان أنه غير مرئي، أو أن جهوده لا تُثمر، ازداد اعتقاده بأنه "من الأقل حظًا". بينما الأشخاص الذين يتمتعون بثقة داخلية، قد يرون العقبات مؤقتة، ويمنحون أنفسهم فرصة أكبر لإعادة المحاولة.

وبالرغم من كل ما سبق، لا يمكننا إنكار أن هناك بالفعل أشخاصًا يبدو أن الحياة تبتسم لهم أكثر من غيرهم. حظهم ظاهر، وخطواتهم تصادف التسهيل تلو الآخر. لكن هؤلاء يبقون استثناءً لا قاعدة. والوقوف طويلًا أمام قصصهم قد يُشتّتنا عن قصتنا نحن، عن المساحة التي يمكن أن نغيّرها، وعن الحظ الذي نملكه نحن، وإن بدا مختلفًا.

ليس علينا أن نشبه أولئك الذين تتحوّل محاولاتهم المحدودة إلى نجاحات لامعة، ولا أن نطارد حظوظ الآخرين وكأنها معيار لقصتنا. بعض الحظ يأتي في صورة أشخاص، وبعضه في توقيت، وبعضه لا نراه إلا بعد سنوات. الأهم من الحظ نفسه، هو كيف نقرأه. هل نراه عذرًا للتوقف؟ أم حافزًا لفهم الطريق بشكل أعمق؟

قد لا نملك أن نختار متى تأتي الفرصة، لكننا نملك أن نكون مستعدّين حين تصل. لأن الحظ لا يمنحنا دائمًا أكثر مما نستحق، لكنه أحيانًا يعيد تذكيرنا بما نستحق، حين نكون على وشك النسيان.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org