العلاج بالفن يُفجِّر الطاقات ويُولِّد الإبداع

مشاعر غامرة من السعادة ملأت دواخلي، وتملَّكني إحساس جارف بالدهشة وأنا أشاهد تلك الصور الإبداعية المبهرة التي أنجزتها أنامل ينتمي أصحابها إلى فئة عزيزة وغالية علينا جميعًا، هي فئة ذوي الإعاقة الذين تضمهم مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية.

المناسبة التي تشرفت فيها برؤية ذلك الفن الجميل كانت زيارتي المدينة خلال الأسبوع الماضي تلبيةً لدعوة لحضور فعاليات اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، وزيارة معرض الأعمال الفنية الذي يحمل شعار "تحديات".

بمجرد وصولي للموقع دخلت في حالة من الذهول؛ لما رأيته من إبداع وجمال وروعة، وظللت ساعات عدة أتنقل في زوايا المعرض وردهاته، وأملأ عيني بذلك الجمال الذي كان يفوح من كل أرجاء المدينة.

عقدت الدهشة لساني وأنا أنظر لتلك اللوحات الفنية الرائعة.. تصورت لوهلة أنها نتاج فنانين محترفين، ولم أصدق عندما علمت أن أولئك الشباب هم الذين رسموها.

يا الله على هذا الفن الأصيل وهذا الإبداع الذي يؤكد من جديد حكمة الله سبحانه وتعالى الذي ما حرمنا من نعمة إلا وعوضنا بأفضل منها.

تجاذبتُ أطراف الحديث مع بعض أفراد الطاقم الطبي والنفسي الذين يتولون متابعة الحالات وعلاجها، فأخبروني بأن العلاج بالفن هو أحدث الأساليب العلمية التي تُشكِّل نوعًا من التواصل غير اللفظي مع ذوي الإعاقة، وأنه بديل عن اللغة، ووسيلة من وسائل التنفيس عن طاقاتهم الكامنة وقدراتهم المكبوتة؛ إذ يستطيعون بواسطتها التعبير عن مشاعرهم الحقيقية تجاه أنفسهم والآخرين؛ لذلك تعتبر أنواع الفنون كافة وسيلة ممتازة لفهم العوامل النفسية وراء السلوك الظاهري للإنسان.

تشعبت دروب الحديث فعلمت منهم أيضًا أنه بواسطة الفن يمكننا الوصول إلى العقل الباطن للإنسان، والتعرف على مشاكله وما يعانيه، وكذلك تحديد ميوله واتجاهاته، ومدى اهتمامه بأشياء معيَّنة في البيئة التي يعيش فيها، وعلاقته بالآخرين، سواء أفراد أسرته أو أصدقاؤه، وتفجير طاقاته، وصقل مواهبه.

وللأمانة أقول إنه تملَّكني إحساس بأن الأطباء وأفراد الطاقم الطبي كافة أشبه بملائكة، حضروا لمساعدة تلك الفئة الغالية علينا جميعًا. كان أسلوبهم في العلاج والتعامل لافتًا؛ فالبسمة لا تفارق وجوههم، يمازحون هذا، ويضاحكون ذاك.. واللافت بشدة أنهم يتعاملون معهم باحترام فائق، ويستمعون إليهم بمنتهى الاهتمام، وكأنهم كبار المسؤولين.

إحدى أمهات الأطفال قالت لي، والتقدير والامتنان يتدفقان من وجهها، إنها لو أنفقت كل ما تملكه على هذا الطاقم الطبي فلن يكفيهم حقهم؛ لأنهم أسهموا بدرجة كبيرة في تبديد مخاوفهم وطمأنتهم بتعاملهم الراقي الشفيف.

كما أنهم لم يكتفوا بالمهنية والاحترافية العالية في مهنتهم بل أسبغوا عليها ما هو أهم من ذلك، وهو الإنسانية؛ إذ استطاعوا إنشاء صداقات مع الحالات التي يتولون علاجها، وامتلكوا قلوبهم.

أما عن مدينة الأمير سلطان فهي صرح متكامل، يضم مكتبةً، وعيادات للعلاج النفسي وتعديل السلوك والاستشارات الأسرية وفحص واختبار السمع والنظر وتأهيل النطق والتخاطب والتواصل، وقاعات تعليمية، وفصولاً للتدريب، والعلاج الطبيعي والوظيفي، ومسبحًا، وصالات للتمارين، والعلاج بالفن. كما يعمل فيها كوكبة من الكوادر المؤهلة في التخصصات كافة ذات الصلة.

قبل أن أغادر المكان تساءلت بيني وبين نفسي عن مصير تلك اللوحات الفنية الراقية، وتمنيت بشدة أن يضمها معرض متنقل؛ ليشاهده الناس في أنحاء السعودية كافة، وليسهم في تسليط الضوء على إبداعات ذوي الإعاقة.. وحبذا لو تمت المشاركة به في معارض وملتقيات عالمية؛ لنُري العالم إبداعات الإنسان السعودي.

خلاصة القول أنني خرجت من تلك الزيارة وأنفاسي تتصاعد من شدة تأثري بما شاهدته، وفي داخلي قناعة راسخة بأن المعاق ليس هو مَن تعطل أحد أطراف جسده عن العمل، أو توقف عن النمو، لكنه هو ذلك الشخص الصحيح فكريًّا والمعافى بدنيًّا ومع ذلك غير مفيد لمجتمعه، ولا يملك الرغبة في العمل والإنتاج، أو لم يُنعم عليه الله بالثقة في نفسه والاقتناع بقدرته على الإنجاز والإبداع.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org