خلق الله البشر من تراب مختلف، جميعهم يحملون صفات وسمات مختلفة تميزهم، فما جعل لأحد نقصًا ما إلا وكان في النقص نفع كبير له، وكثيرًا ما كان العطاء في فهم هذا النقص وإيجاد أفضل طريقة للتعامل معه ليكون هناك تكيُّف مع الحياة.. إلا أن الكثير من الناس يغفلون عن مثل هذه اللمحات والميزات التي يودعها الله سبحانه وتعالى في معاني هذا الإنسان نفسًا وجسدًا.
هناك الكثير من الأمثلة لمن غيَّروا مجرى الحياة وأُصيبوا بإعاقة، منهم:
الأديب والشاعر والمفكر والفيلسوف الكبير أبو العلاء المعري.. الأعمى!
الأديب المفكر، والناقد الشاعر، الكبير مصطفى صادق الرافعي.. الأصم.
الشاعر صاحب المعاني العظيمة، والتصويرات الجليلة، بشار بن برد.. الأعمى أيضًا!
الشاعر عبدالله البردوني، والأديب طه حسين.. وغيرهم كثير.
أخذ الله أبصارهم، وأبقى لهم البصيرة؛ فكانوا الضوء الذي يهتدي الناس به إلى المعارف والمعالي والجمال.. هؤلاء هم أصحاب الهمم الذين نتحدث عنهم.
أولاً على الإنسان أن يُحسِّن تقييم ذاته، فهل المعاق، أو مَن سُلب شيئًا من الحواس أو من القدرة التي يمنحها الله تبارك وتعالى أقل من غيره؟
على مَن يريد التغلب على إعاقته أن يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أودع فيه قوة أخرى غير التي أخذها منه. على الإنسان فقط أن يحسن التنبه لنِعَم الله عليه، وفيه، ومعه.. عليه أن يحسن التنبه لتلك النعم والمواهب التي تحيطه في كل مكان وزمان.. عليه أن يشعر بنعمة الله عليه في أنه أعطاه علمًا، وحمَّله مهمة تبليغه لمن هم دونه في العلم.. يستطيع المعاق منا صاحب العلم أن يُبلِّغ العلم الذي بين جنبيه إلى المعاقين من أمثاله، ويساعدهم ليطوروا من ذاتهم، ويستطيع أيضًا أن يكون عونًا لغير المعاقين؛ ليوصلهم للعلوم التي يملكها هو؛ فلربما كان شاعرًا أو عالمًا فقيهًا، أو لربما كان طبيبًا حاذقًا، أو مهندسًا مبدعًا، أو مبرمجًا صاحب علم وخبرة في الحاسب الآلي.. عليه أن يسعى لإيصال هذا العلم لغيره ممن يحتاج إليه من المعاقين وغيرهم.. إذا آمن الإنسان بأنه إنسان، إذا آمن الإنسان بتعريفيه الأول، على أنه إنسان خُلق ليعمر الأرض، بغض النظر عن حاله، ضرير، أصم، أبكم، أشل، أو أعرج، كيفما كان الحال، الإنسان يبقى قادرًا متى ما آمن بذلك في نفسه. وفي تاريخ الأمم الأمثال أكثر من أن تُحصى.. ونحن ها هنا قد قلنا إن من أراد أن يكون مدربًا بالرغم من إعاقته فليتقن أولاً العمل الذي يريد أن يكون مدربًا فيه، وليكن مضرب المثل في إحسانه وإتقانه لهذا العمل، ثم لينظر كيف يطلبه الناس، وكيف يتناسى المجتمع بأسره مصابه ضريرًا كان أو أصم، مهما كانت إعاقته. الناجح لا ينظر الناس إلا إلى إنجازاته.. إذًا، فليحسن المرء لذاته أولاً، وليكن منارًا في المجال الذي يريد أن يختص به، ولن تعجزه حين ذاك الإعاقات وإن تكاثرت!
وعليك أن تركز دائمًا بشكل كبير على إنجازاتك وتجاربك وخبراتك، وحاول أن تحشد أكبر عدد منها، إضافة لشهادات الخبرة والتزكية، فضعها جميعًا في حساب من ينظر إليك، ليرى أنه أمام شخص منجز صاحب عمل، وإنجاز، وخبرة، وعلم.
ولربما يكون من الحوافز الجميل ذكرها ذكري تجربتي الشخصية في مجال التدريب. أنا رجل من ذوي الإعاقة البصرية، ومع ذلك أقوم بالتدريب عن طريق البرامج الحديثة "أونلاين" للكثير من ذوي الإعاقة البصرية. قدمت تدريبات عدة عن طريق الإنترنت لتطبيقات الحاسب الآلي. دربت أعدادًا كبيرة في مرات، وأعدادًا أقل في مرات أخرى، وكان لإخباري لهم بأني ضرير مثلهم حافز قوي لهم؛ وهاتك لحجب الحواجز التي تكون عادة بين الضريرين من المتدربين وغيرهم من الناس.. على أني لم أكتفِ بتدريب ذوي الإعاقة البصرية وحسب، بل دربت البصيرين أيضًا، وقد سارت المحاضرات والتدريبات على خير ما يكون. فقط، يحتاج الإنسان للعلم، والقوة التي تكمن في أصل نفسه.. التدريب ليس حكرًا على أحد!
العديد من خبراء التوظيف حول العالم يقرون بأنه ليس من الواجب عليك أن تخبر المتدربين بإعاقتك في أحوال كثيرة، بل في الكثير من الأوقات عدم إخبارهم إطلاقًا أمر أفضل بكثير من أن يعرفوا بذلك، إلى وقت معين.. وتستطيع بعدها أن تخبرهم بأنك معاق!
إن ذكر إعاقتك في سيرتك الشخصية استعدادًا للتوظيف -على سبيل المثال- قد يصرف الأنظار عن جميع المميزات التي تحوزها أنت؛ ليركزوا فقط في حيز ضيق، هو النظر إلى إعاقتك، وحسب. وهذا أولاً أو آخرًا يوقع الضرر عليك؛ فنص الخبراء على تجنُّب الإخبار بالإعاقة إن كانت لا تضر بطبيعة العمل أو التدريب، وأنه أمر أفضل بكثير.. لكن، متى نستطيع أن نقول إن إخبار المتدربين بإعاقتك أمر مطلوب؟ ومتى يكون أمرًا يجب عليك إخفاؤه؟
يعتمد هذا بشكل رئيسي على طبيعية المتدربين -وهذا سيقودنا لسؤال آخر سنتكلم عنه- وطبيعة نوع التدريب الذي تكون مشرفًا عليه. فمثلاً، التدريبات التي تكون فيها مشرفًا على المعاقين يكون مناسبًا جدًّا أن تخبرهم بأنك معاق مثلهم بكذا وكذا؛ فيكون إخبارك لهم سببًا في تشجيعهم، وتحفيزهم، وإخبارهم بطريقة غير مباشرة بأنهم سيستطيعون أن يكونوا مدربين متميزين، وأن هذا لن يكون عسيرًا عليهم البتة.. ففي هذه الحالة يكون إخبارك لهم أمرًا حسنًا؛ يُرجى منه النفع، ويُرجى لهم منه دفع هِمَمهم للأعلى، وتطوير ثقتهم بذاتهم للأفضل.
أيضًا إن أنت ذكرت إعاقتك للمتدربين الذين هم مصابون بالإعاقة نفسها سيكون هذا دافعًا لهم لإزالة الحواجز بينك وبينهم، ويكون إخبارهم بحالك وإعاقتك أفضل؛ لكي يأخذوا حريتهم، ويكونوا على طبيعتهم أمامك في الأسئلة أو الاستشارات التي قد تعينهم بحق خلال التدريب.
لكن إن تكلمنا عن الأوقات التي يحبذ فيها ألا تخبر أحدًا بإعاقتك فهي عندما يكون المتدربون عندك غير مصابين بإعاقتك نفسها، لأنك إن أخبرتهم لربما يقولون إن هذا الرجل معاق، إذًا لن يكون تقديمه للتدريب أو للمحاضرة، أو أيًّا كان، بالجودة المطلوبة، وهذا مما سيطعن في جميع تعليمك، وجميع شهاداتك؛ إذ إنهم سيقومون بمسح جميع خبراتك ومكتسباتك الشخصية وغيرها مقابل الإعاقة! إذا كانت إعاقتك لا تضر بالتدريب، ولا تنقص للمتدربين أي شيء، فيمكنك حينها ألا تُعلم أحدًا بإعاقتك؛ فهذا سيكون أفضل لإتمام عملك وتدريبك على أتم وجه.
وأذكر هنا أن أحد المدربين -وهو ضرير- بدأ إلقاء محاضرته بذكر إعاقته، وتكلم عن هذا الأمر، وتعمق فيه، ومن ثم بدأ التكلم في محاور المحاضرة، إلا أنه في أثناء سرده المعلومات أحد المتدربين قليلي الخبرة عيَّره بإعاقته؛ لأن هذا المتدرب ما وصلته المعلومة بالشكل الذي يفهمه! بل نسب عدم فهمه للإعاقة، فكأنما قال إنه امتنع من الفهم لأن المدرب معاق! فهذا الذي نقصده بأن الناس إن أخبرناهم بإعاقتنا وهم من الأصحاء لربما نسوا جميع المؤهلات التي تحصلنا عليها، وجميع الشهادات التي عملنا وتعلمنا لأجلها، لأجل الإعاقة هذه؛ لذلك يجب على المدرب أن يعرف كيف يقدر الوقت الذي يتكلم فيه عن إعاقته إن ادعى الأمر ذلك، وعلى المتدرب أن يعلم أن المعاق مهما كانت إعاقته إنما هو إنسان صاحب عقل ومواهب عديدة، ومن سُلب شيئًا واحدًا يكون الله قد أعطاه أكثر!
عليك دومًا أن تعلم أنه لا يوجد أي نص أو أي لائحة تفرض عليك أن تخبر المتدربين أو غيرهم بإعاقتك.. الأمر يقع على عاتقك أنت.. انظر إلى الأمر الذي سيكون أنفع وأنجع لعملك، وانظر لأي الشيئين أنت تميل، إلى أن تخبر؟ أم أن تسكت؟ الأمر يعتمد على أي الأمرين يُعدَّان أكثر راحة لك، بعد ذلك يكون لك الخيار اعتمادًا على طبيعة المتدربين، إضافة لنوع التدريب وطبيعته.
كثيرًا ما يتردد هذا السؤال في الأوساط، والإجابة عنه.. وأتكلم عن تجربة شخصية: نعم؛ تستطيع.. لكنَّ هناك شروطًا، من استوفاها سيستطيع أن يكون مدربًا للأصحاء، وبشكل مناسب جدًّا. من هذه الشروط: أن يكون الإنسان قد ألمَّ بعلم كافٍ في المجال الذي يريد أن يكون مدربًا فيه، وألا تكون إعاقته تؤثر بشكل سلبي على أدائه مهام التدريب، وهذا الأمر يعتمد على طبيعة التدريب وما هو، وأيضًا على المدرب أن يكون متدربًا بشكل كافٍ ووافٍ، وعليه أن يكون قد شاهد الكثير من المحاضرات التدريبية التي كان المدربون بها من ذوي الإعاقة، وعليه أن يتنبه للأخطاء التي عادة لا يحبها المتدربون الأصحاء، وعليه ألا يخبر الأصحاء بإعاقته إلا إن استلزم الأمر؛ ليبيِّن لهم أولاً أنه صاحب علم وتجربة وخبرة، وبعد ذلك عليه أن يستشير أهل الخبرات الذين سبقوه، وليحاول أن يتعلم على أيديهم الأساسيات التي يقرها المدربون الأوائل.. وعلى من يريد أن يكون مدربًا للأصحاء وهو من ذوي الإعاقة أن يكثر الحضور للدورات التي يقدمها الأصحاء؛ لكي يستطيع أن يجاريهم في أساليبهم العامة، ومن ثم يتفرد هو بأسلوبه.. ومن ثم ليكن واضحًا أنه ليس ذوو الإعاقة هم الوحيدين الذين يحتاجون لحضور الدورات ليتعلموا وليكونوا أصحاب تقديم متميز؛ فالجميع يجب أن يتعلم، والجميع عليه أن يأخذ خبرة العمل من غيره.. فالكل في العلم سواء.