الخوف الهادئ… الوجه الآخر للابتزاز العاطفي
أحياناً لا ننتبه للابتزاز العاطفي من أول كلمة… بل من تلك اللحظة الصغيرة التي تنازلنا فيها ونحن نُقنع أنفسنا أنها "ما تسوى". لحظة ظننا أننا نفعلها حفاظاً على الود، أو لأننا لا نريد أن نكسر قلب أحد. ومع الأيام، نكتشف أن شيئاً في داخلنا انكمش قليلاً، وأن قراراتنا لم تعد تشبهنا كما كانت، وكأن خطواتنا تُحسَب بناءً على خوف خفيّ من خسارة شخص… أو خسارة رضا أحد.
يحدث ذلك حين يقول أحدهم: "براحتك… بس أنت أدرى بالنتيجة"، أو حين يترك صمتاً طويلاً يملأ المكان بما هو أثقل من الكلام. يحدث حين نشعر بأننا مسؤولون عن مزاج آخر، مسؤولون عن هدوئه، عن حزنه، عن غضبه… وكأن علاقتنا تتحوّل تدريجياً من مساحة أمان إلى اختبار دائم.
وفي علم النفس، يُعرَّف الابتزاز العاطفي بأنه نمط يستخدم فيه طرف ما الخوف أو الذنب أو الإحساس بالواجب ليقود الطرف الآخر نحو قرارٍ لا يريده. ما يميّز هذا النمط أنه لا يظهر دفعة واحدة… بل يتشكّل من تفاصيل صغيرة، من رسائل مبطنة لا تُقال صراحة لكن أثرها يبقى طويلاً، إلى أن يبدأ الشخص بالتنازل قبل أن يُطلب منه ذلك أصلاً. وفي كل مرة يتنازل، يفقد شيئاً من صوته الداخلي.
وحين نلتفت لحياتنا اليومية سنرى هذا النمط بأشكال مختلفة، في علاقة عاطفية يصبح فيها الانسحاب تهديداً خفياً، وفي أسرة يرتبط فيها رضا أحد الوالدين بتضحيات الابن المستمرة، وفي عمل يلوّح فيه مدير بأن "الفرص تتأثر" لو تراجعنا خطوة، وحتى في الصداقات حين يشعر أحدهم أن قيمتك تُقاس بمدى حضورك الدائم، لا بصدقك ولا بمحبتك الحقيقية.
وهنا، تتكوّن بداخلنا مشاعر معقدة: مزيج من الخوف والذنب والقلق… تجعلنا نُبرّر كثيراً، ونشرح أكثر مما نحتاج، ونعتذر عن أشياء لسنا مخطئين فيها. ومع الوقت، يصبح صعباً أن نميز ما إذا كان قرارنا نابعاً منا… أم من خوف زُرع في داخلنا دون أن نلاحظ.
ورغم ثقل هذا كله، إلا أن التعامل معه يبدأ غالباً من الداخل. خطوة صغيرة… لكنها مؤثرة: أن نتوقف قبل أن نقول "نعم”، ونستمع لصوتنا الحقيقي. أن نسأل أنفسنا بصراحة: "هل هذا ما أريده؟ أم خوف من رد فعل شخص آخر؟". هذا السؤال وحده يعيدنا إلى مركزنا، إلى المكان الذي تخرج منه قراراتنا الحقيقية.
ويمكن أن نمنح أنفسنا مساحة صغيرة من الوضوح، بجملة بسيطة تقول:" أتفهم شعورك… لكن هذا مناسب لي الآن". هذه الجملة لا تخلق صراعاً، لكنها تضع حداً ناعماً، وتُذكّرنا بأن التعبير عن النفس ليس خطأ، وأن الوضوح لا يلغي اللطف.
ولأن الابتزاز العاطفي يعتمد كثيراً على شعور الذنب، يصبح من المهم أن نراقب هذا الشعور قبل أن يكبر بداخلنا. نحتاج أن نذكّر أنفسنا، كل مرة، بأن مشاعر الآخرين ليست عبئاً نحمله على ظهورنا، وأن تهدئة غضبهم أو تغيير مزاجهم ليس واجباً مكتوباً باسمنا. أحياناً نخلط بين المحبة والمسؤولية المطلقة، فننسى أن لكل شخص مساحة تخصه، وحدوداً لا معنى للعلاقة بدونها. الحدود لا تعني البعد… بل تعني أننا نعرف أين ينتهي دورنا ويبدأ دور الآخر، وأننا لا نسمح لذنب غير مبرر أن يقود قراراتنا. وإذا تكرر هذا النمط بطريقة تُتعب النفس، فطلب المساندة من مختص أو شخص موثوق ليس ضعفاً، بل خطوة تعيد ترتيب الفوضى الداخلية وتمنح القلب مساحة آمنة ليرى الأمور بوضوح أكبر.
وفي نهاية كل ذلك، يبقى المعنى الأهم: أن المحبة لا تُقاس بكمية التنازلات، وأن اللطف لا يعني أن نؤذي أنفسنا بصمت. من حق كل شخص أن يعيش علاقة تمنحه أماناً لا خوفاً، ومساحةً يشعر فيها بأنه مسموع، ومكاناً يكون فيه نفسه دون أن ينتظر عقاباً غير معلن. فالعلاقة التي تقوم على الخوف أو الشعور بالذنب قد تُشبه القرب… لكنها لا تمنح دفئه.
