إرث الأنماط… حين تُورَّث المشاعر قبل الملامح

تم النشر في

بعضنا يرث المال، وبعضنا يرث الملامح، وآخرون يرثون ما لا يُرى… يرثون الصمت، وطريقة الخوف، وحدود التعبير. لا نحمل في داخلنا جينات العائلة فقط، بل نحمل أيضاً تاريخها العاطفي بكل ما فيه من خوفٍ ودفءٍ ونجاة.

ولأن الإنسان يتشكّل من بيئته قبل وعيه، فإن كثيراً مما نعتقد أنه "طبع" فينا ليس إلا صدىً لتجارب قديمة. فالإرث يبدأ من حيث لا ننتبه، من لحظة صمتٍ بعد خلاف، أو من نظرةٍ حذرة بين والدين، أو من عبارةٍ صغيرة تستقر في الذاكرة قبل أن نفهم معناها. هكذا تتكوّن ما يسمّيه علم النفس "الذاكرة الانفعالية" تلك التي لا تحفظ الحدث، بل الشعور المصاحب له. فالطفل لا يتذكر التفاصيل، لكنه يحتفظ بالإحساس: الخوف، الذنب، الحاجة إلى الرضا. ومع مرور الوقت، يتحول ذلك الإحساس إلى نمطٍ داخلي يعيد نفسه كلما واجهنا مشهداً مشابهاً.

ومن هنا تبدأ الحكاية في التكرار. ابنةٌ كانت ترى أمّها تقلق من كل خطأ، فكبرت تحمل في داخلها هوس الكمال، لا ترتاح إلا حين تُرضي الجميع حتى لو أنهكت نفسها. وابنٌ عاش في بيتٍ لا يُقال فيه "أحبك" فظنّ أن الحب يُثبت بالفعل لا بالكلمة، فصار يمنح أكثر مما يحتمل ليشعر أنه كافٍ. وأخرى تربّت في بيتٍ تُخفي فيه النساء دموعهن، فكبرت وهي تظن أن القوة تعني الصمت، فتعالج حزنها بالابتسام. وشابٌ رأى والده يخبّئ تعبه خوفاً من الضعف، فتعلم أن الاستسلام للهشاشة عيب، فصار ينهار بصمتٍ ولا يطلب المساعدة. حتى في العمل، نعيد الحكاية نفسها، من تربّى على الخوف من الخطأ يعيش في قلق دائم من النقد، ومن نشأ في بيتٍ لا يُسمع فيه صوته يتردد في طرح رأيه. إنها السلسلة غير المرئية التي تمتد بين الأجيال، تربطنا بخيوطٍ دقيقة من المشاعر أكثر من الدم.

ولأن العقل البشري يسعى دائمًا لحمايتنا، فهو لا يفرّق بين الماضي والحاضر. فعندما نواجه موقفاً يشبه القديم، نستدعي الاستجابة نفسها كأننا نقول: "هكذا نجونا أول مرة." وهنا يتوارث الناس مشاعرهم لا عبر الجينات، بل عبر اللاوعي الذي يعيد صياغة الألم في هيئة عادة.

غير أن العائلة ليست وحدها مصدر الإرث، فالمجتمع يشارك في تكوينه أيضاً. مجتمعٌ يمدح الصبر حتى على الأذى، ويكافئ الصمت على حساب الصراحة، يعزز الأنماط ذاتها التي نشأت في البيوت. وحين تتكرر الرسالة من كل اتجاه، تصبح جزءاً من هويتنا، كأنها قانون لا يُكسر.

ومع ذلك، تبقى الذات قادرة على الاختيار. فالتحرر لا يعني رفض الماضي، بل فهمه. أن نرى كيف استقرت هذه الأنماط فينا، وكيف تخدمنا أو تعيقنا. وأول خطوة نحو الوعي هي الملاحظة دون لوم: أن نراقب أنفسنا حين نكرر ردّاً مألوفاً ونسأل بهدوء، "هل هذا لي، أم لأحدٍ قبلي؟". هذا السؤال وحده بداية العلاج، لأنه يفتح باب الفهم ويضع المسافة بيننا وبين ما نحمله.

وفي المقابل، ليس كل إرث عبئاً. فكما تنتقل الخيبات، تنتقل أيضاً القوة. نرث الصبر من أمٍّ صبرت، والكرم من أبٍ أعطى رغم قلّة ما يملك، والمرونة من جدّةٍ لم تتوقف عن الابتسام رغم الخسارات. هناك إرثٌ جميل يشبه الضوء، لا نعرف مصدره لكنه يرافقنا أينما ذهبنا.

وحين نفهم الإرث بهذه العدسة المتّزنة، يتغيّر كل شيء. لا نكرهه ولا نمجّده، بل نعيد تشكيله. نفهم أن الصمت الذي كان حماية قد يصبح عزلة، وأن الصرامة التي كانت ضرورة قد تتحول إلى قسوة. وهنا يلتقي الفهم بالرحمة ..الرحمة بأنفسنا وبمن سبقونا. فالإرث لا يُكسر حين نفهمه، بل يتحرر حين نعيد وصله بوعيٍ جديد، يليق بنا نحن.

ما نرثه قد لا يكون اختيارنا، لكن طريقة حمله هي ما تصنع قصتنا، بين من يكرّر الماضي، ومن يكتبه من جديد.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org