رُزقتْ أسرة بكفيف!
الكفيف ذاك الفرد الذي فَقَدَ بصره. ولنتكلم عن الكفيف الذي وُلد كفيفًا، أي: الذي لا يعرف معنى للصور، ولا يعرف الرسم ولا اللون.. نتكلم عن الكفيف الذي ميَّزه الله فجعله يُقاد بالبصيرة لا بالبصر.
الكفيف حال من أحوال النفس البشرية، تستحق التأمل والدراسة، تستحق التأمل عن كثب؛ لتتعرف على عظمة الله سبحانه وتعالى في تركيب مخلوقاته، وتعدُّد طرق تعلميهم وتفهيمهم.. فبعيدًا عن الطرق التقليدية لكل شيء يبقى الكفيف إنسانًا آخر، إنسانًا مميزًا.. الكفيف ذاك الذي لا يرى حتى السواد.. على عكس ما يتخيل البعض. نعم، الكفيف لا يرى السواد؛ لأن الأسود لون، وهو لا يعرف الألوان؛ فلا أسود في حياته. الكفيف لا يرى؛ لأن العصب البصري مفقود أصلاً!
أنا -ككفيف- أعد العمى حالة فريدة؛ لأنها تعني أن الكفيف يستوعب كل شيء دون بصر، على أن الغالبية العظمى من الناس لا يستطيعون إدراك الشيء دون البصر، أما الكفيف فعلى العكس تماما: يستطيع الإدراك، يستطيع الشعور، يتكيف مع الخيالات والمشاعر، يتحرك ويفكر ويعمل ويقوم بكل الأنشطة اليومية دون أن يبصر، وهذا ما يعجز عنه الناس العاديون.
الكفيف قد يكون مبدعًا كغيره، وقد يكون أكثر إبداعًا من الجميع؛ لأنه يفكر بطريقة مختلفة، ويستعمل طرقًا مختلفة في تفكيره وتنسيقه للأمور، وتحليله لها.. يكفي أن نعلم أن عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، كان رجلاً أعمى. ويكفي أن نعلم أن الشاعر العظيم بشار بن برد كان رجلاً أعمى. أيضًا لنعلم أن شيخ المعرة، الشاعر الفحل أبو علاء المعري، هو رجل أعمى.. هؤلاء العميان، وغيرهم كثير من أمثال أبي بكر المخزومي وجمال الدين الصرصري والشيخ عبدالحميد كشك وعبدالله البردوني، يكفي أن نعلم أن كلهم عيمان، لا يشق لهم غبار في الأبواب التي نبغوا فيها، ولم يكن العمى سببًا في تضعضعهم إلى الوراء، إنما لربما كان الحافز الأول لهم؛ ليستمروا؛ لأنهم مميزون بحق، وما استطاعوه لا يستطيعه أي أحد بسهولة أبدًا.
دعونا نخرج من الكلام عن الكفيف لنتكلم عن أسرة الكفيف. أقدم بين أيديكم رجاءات وطلبات، لو كنتم ممن رزقه الله تعالى بكفيف..
لو رُزقت أسرة بكفيف فلتعلم أولاً أن الكفيف طفل كبقية الأطفال إلا أنه قد يحتاج لبعض العناية من بعض النواحي؛ لأن الطفل خرج إلى هذه الدنيا ولم يعرف أصلاً معنى النظر؛ لذا فلن يكون الأمر شاقًّا عليه، بل سيتكيف.. لكن على الأسرة أن تدرك بعض الأمور، وتتدارك أخرى.
والرجاء الأول: أرجوكم لا تتحفوا الكفيف بالعناية الشديدة.. دعوه يتعلم كيف يعتمد على نفسه كيلا تسببوا له المشاكل عندما يكبر، دعوه يتعلم كيف يمشي، كيف يستعمل سمعه، كيف يأكل، كيف يشرب، كيف يتعامل.. لا تحدوه، لا تعقدوه بكثرة النصائح والتوجيهات، دعوه يخطئ ويصيب؛ ليتعلم، ولما يكبر سيكون قويًّا بما فيه الكفاية ليستطيع ممارسة حياته بكل أريحية، وبكل بساطة واعتيادية.
الرجاء الثاني: علِّموا الطفل بالحواس الأخرى، واستثمروا حاسة السمع لديه، علموه ما يحفظ، فليحفظ القرآن والشِّعر والعلم وشيئًا من الحديث والنثر.. فليحفظ، وليحفظ، ولا يمل الحفظ؛ لأن هذا سيخلق عنده عالما آخر غير الذي يعيش فيه، سيجعل منه إنسانًا بعالمَيْن، عالم يعيش فيه حقيقة، وعالم تسمو فيه روحه. علموه دائمًا، ولا تسأموا من تعلميه، وليكن مواكبًا للعصر بعلمه، فليتعلم التقنية، التقنية التي سهلت على المكفوفين الكثير والكثير في حياتهم العملية، ومن ثم فليتعلم ما يستطيع لاحقًا أن يقتات به من أمور لربما إدارية، ولربما هندسية، ولربما في العلوم التطبيقية، أو غيرها من العلوم الإنسانية.. لن يعجز الكفيف عن التعلم.. بل على العكس، الكفيف لديه قدرة خارقة على الاستمرارية بالتعلم!
على الأسرة أيضًا أن يغدقوا على ابنهم الكفيف العطف والحب والرحمة، أي أن يعاملوه كبقية إخوته، لا يقل عنهم أبدًا.. عليهم أن يُحسنوا إليه، خاصة بالتعليم والحب، فإنهما قيام للطفل صغيرًا قبل الكِبَر.
تعامُل الأسرة مع الكفيف يجب أن يكون تعاملاً ملؤه الحب، ملؤه الحنان، ملؤه عاطفة الأبوة!
في سنوات من حياة هذا الطفل الأب والأم سيكونان العالم كله بالنسبة إليه، هما كل شيء، فليدرك الآباء ذلك، وليعلموا كيف عليهم أن يستغلوا هذه الفترة لمنفعة ابنهم أولاً، ثم أولًا، ثم أولًا.
وقد سبق لنا أن كتبنا عن الآداب العامة في التعامل مع المكفوفين، ونُشر ذلك في مقال "التدريب وحاسة البصر". يجب على الأسرة ألا تهمل أبدًا أهمية ضم الكفيف للمجتمع من حوله. وقد أُتيح في المملكة العربية السعودية الكثير من الجمعيات التي توفر الخدمات والدورات التعليمية المتعددة للمكفوفين.. فعلى الأسرة أن تدمج الكفيف مع المجتمع كله، بصيرهم وأعماهم.. على الأسرة أن تبذل قصارى جهدها لتجعل الكفيف يعيش حياته في المجتمع كما هو فرد منه.. يتعايش معهم، ويأكل معهم، ويشرب ويلهو ويخرج معهم، يعمل معهم، ويعملون معه، يضيفون عليه بأفكارهم، ويضيف عليهم بأفكاره وطرق استنتاجه.. على الأسرة ألا تجعل من ولدها ولدًا كفيفًا منطويًا على نفسه ومن هم حوله فقط، لا.. إنما عليها أن تجتهد الجهد كله لتجعل من ابنها ابنًا من المجتمع فاعلاً فيه.
أيضًا أحب أن ننبه لشيء في غاية الأهمية، هو أنه على الأسرة أن تنظر للكفيف دائمًا بمنظور معتدل منصف، تعرف قدراته وسقفها، لا تدفعه كثيرًا، ولا تثبطه أبدًا.. فلتحرص الأسرة على ألا تقارن ولدها الكفيف بغيره من المكفوفين أو من غيرهم، وليحسنوا تقديره وتقدير ما يمكنه القيام به؛ فقد مايز الله بين الناس بالعقول والأفهام كما مايز بينهم بالحواس والأجسام.
ولا نهمل في هذا الجانب جانب الإخوة ومهامهم فيه؛ فهي كثيرة. الإخوة دائمًا هم السند لبعضهم، وهم دومًا مع بعضهم؛ لذا فعلى الإخوة، أكبر من الضرير كانوا أو أصغر، أن يكونوا سندًا له، عونًا له، ساعدًا يتكئ عليه.. عليهم أن يكونوا مساعدين له على الدوام في كل ما يحتاج إليه، يمشون معه متى ما احتاج، يخرجون معه متى ما أراد، يعاملونه كمثلهم وهو واحد منهم.. عليهم أن يعرفوا كيف يكون التعامل مع أخيهم، كبيرًا كان أو صغيرًا.. المهم، إن كانوا إخوة خمسة فهو سادسهم، أربعة فهوة خامسهم، ثلاثة فهو رابعهم.. الكفيف فرد من عائلته، يحتويهم ويحتوونه.