شعرت مرزوقة بصداع، مباشرة فتحت النت، هرعت للصيدلية طلبت ما وصفه د.قوقل وزادها الصيدلي مما أفاء الله عليه مما خفّ حمله وغلا ثمنه، جرَّبت أنواعًا مختلفة لمرات عديدة، استمر الصداع، عاودت القوقلة لتجد مئات التشخيصات من صداع بسيط إلى سرطان بالمخ، توجهت للطبيب بعد تجارب مريرة مع الأدوية وأعراضها الجانبية.
العجيب أن "مرزوقة" حتى في حضرة الطبيب كانت القوقلة شغلها الشاغل، بل ووصل بها الحال إلى نقاش الطبيب (وهو حقها) لينتهي الوضع بصياح، تدخّل رجال الأمن، ويشاع أن التحقيق جارٍ مع الطبيب المتهم بفقر في مهارات التواصل، وتم تحويل "مرزوقة" للطبيب النفسي؛ لإصابتها بمتلازمة قوقل (ميل المريض لإجراء بحث قوي على النت في محاولة للتشخيص الذاتي للمشاكل الطبية التي قد يعاني منها).
هل تخيلت ولو لثوانٍ حياتنا دون نت؟ وهل تخيلت إنترنت المعجزة قوقل؟ سواء كنا نبحث عن منزل، مطعم، مستشفى، مدن قديمة أو جديدة، تاريخ، فلك سياسة، رياضة أو اقتصاد، النت يقدم الإجابات مباشرة، المصيبة أن ينتهي بنا الأمر بآلاف المواقع والإجابات، أغلبها ليست ذات صلة بما نبحث عنه أو غير دقيق، ولو سألت أي شخص عن أي شيء لجاءك الرد مباشرة ودون تردد: "قوقلها".
يمكننا العثور على معلومات صحية دقيقة في عديد المواقع، وقد نصادف الكثير من الغث والسمين، لذا عليك أن تعرف أين وكيف ومتى تبحث، مع الأخذ في الاعتبار مدى سهولة البحث في قوقل، وصعوبة الانتظار لساعات في العيادات المزدحمة أو أقسام الطوارئ تبقى الحيرة والأسئلة: أيهما أسرع الذهاب للطبيب أم البحث في النت عن التشخيص والعلاج؟ وهل السيد قوقل أفضل من شهادتي الطبية؟ وإلى أين وصلت الثقة في الطبيب؟
يذهب 70% من الكنديين للنت بحثاً عن المعلومات الطبية أو المتعلقة بالصحة، سعى حوالي 85% من الأمريكان للحصول على معلومات طبية باستخدام محركات البحث، وبلغت نسبة الأشخاص الذين يسعون للحصول على معلومات صحية عبر النت في أيرلندا ذروتها عام 2021 بنسبة 66% مقارنة بـ27% عام 2010.
المصيبة العظمى تكمن فيمن يقوم على بعض تلك المواقع، والطامة الكبرى فيمن يكتب في وسائل التواصل، ويفتي في صحة الأمة دونما علم أو خبر، أما ثالثة الأثافي فهي زمرة من أبناء جلدتنا الأطباء يكتبون في غير تخصصاتهم، ويفتون آناء الليل وأطراف النهار، فهل أصبحت صحتنا لكل من طَارَ في السماء وكلّ من دَبَّ على الأرض؟ وهل حقّ لكل من فتح حسابًا بوسائل التواصل أن يعطي لنفسه حق الإجابة صحياً، والقول بما يجهل والجهر بجهله أمام الأمة؟
الإفتاء في الأمور الصحية والاجتهاد ليس بالأمر السهل أو المهمة الهينة، فعاقبتها هلاك للأرواح، بل إن أهل الطب أنفسهم يترددون ألف مرة قبل الإجابة، وإن أجابوا فعلى أُسس (تاريخ المرض، فحوصات دقيقة وصور واضحة).
"من قال لا أدري فقد أفتي" نُسيت، وتجاهل الكثير "لا يُفتى ومالك في المدينة"، وأصبح كلهم مالك، بل إنهم يتزايدون وكالسرطان ينتشرون، بربكم ما الذي يجعل صاحب حساب في "تويتر" يجهل ترتيب الحروف وكتابة الكلمات أن يتحول بين عشية وضحاها لمفتي صحي ويُحدّث في أدق التخصصات وأفتك الأمراض؟
ما الذي يغري جاهلًا لا يعرف في الطب أكثر مما أعرفه في انشطار الذرة أن يتحول ما بين غمضة عين وانتباهها إلى ناصح وخبير وقادر على صنع المعجزات الصحية لحالات لم يجد مركز جون هوبكنز ومستشفى مايو كلينك وإم دي أندرسون طرقًا لعلاجها إلى يومنا هذا؟!
أحبّتي الكرام.. هناك أسباب تجعل من مواقع ومصادر النت الصحية مصدر قلق، ومنها عدم وجود ضمان لجودة المعلومات المنشورة (يمكن لأي شخص نشر أي شيء دون رقيب أو حسيب)، لا يمكن في كثير من الأحيان التحقق من دقة المنشور، تفاوت الجودة من موقع لآخر، وجود رعاة أو داعمين قد يؤدي لغياب الحيادية، وربما المصداقية؛ بسبب الترويج لمنتجات الرعاة، بعض المواقع تعبر عن آراء القائمين عليها، بدلاً من تقديم الحجج المبنية على البراهين، وبعضها للتسلية لا للفائدة، والطامة أن بعضها يسعى لإثارة الفضائح وإثارة الجدل بدلاً من تقديم معلومات موثوقة.
ختاماً:
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].