الكرسي الهزاز..!!

تم النشر في

في أحد مرافق اللعب ينتشر الأطفال بضحكاتهم، وتبقى تلك الطفلة مترددة في الاندماج معهم؛ تخاف أن تبتعد بضعة سنتيمترات عن والدتها! يسايرها القلق، وتتسلقها ظنون متسارعة.. تشعر بأنهم غير موثوق بهم جميعًا.. تخشى الدخول في ذلك العالم؛ فتتسمر مكانها وهي تسمع تلك العبارات تتردد:" يالله يا نوف روحي العبي وش فيك لاصقة فيني!".

حان وقت النوم. دخل الصغيران مع والدتهما لبدء روتين النوم. الأول في غضون دقائق أصبح جاهزًا ومستعدًّا لقراءة القصة، أما الآخر فكان يغرق في فكرة جعلته يتأخر عن الالتحاق بركب أخيه، ثم باغت والدته بسؤاله: "كيف بيمر الوقت بكرة؟ يوم السبت طويل ودائمًا يوم ممل، واحتمال بابا يعاقبني لأني ما درست الاختبار ودرجتي بتكون سيئة!".

تتبادل هاتان السيدتان الحديث منذ نحو ساعة. ترتشف الشاي إحداهن بينما تتدافع عبارات الاستياء من ثغر الثانية وهي تصف استياءها من وضع ابنتها ذات الأعوام الست ليلة البارحة: "مو معقول؛ كل نص ساعة تصحى تدورني. تخيلي ما أقدر أطلع من البيت إذا ناموا أخاف تقوم تدورني وتصيح! ".

في زاوية أخرى، إنها المرة العاشرة حتى الآن التي تسأل والدتها: متى ستأتي صديقتي اليوم؟ وتسمع الجواب ذاته، ولا تترد في تكرار السؤال بعد مرور مدة قصيرة!

يتخيل كل يوم سيناريو متجددًا للوحوش المختبئة تحت السرير، وتتصاعد دقات قلبه؛ فيهرب من الغرفة، ويصبح الخلود للنوم مهمة شاقة كل ليلة!

مشاهد مختلفة لأطفال أو حتى بالغين، ربما تكونون قد ألفتم بعضها، أو تكونون ممن يعانون أحداثًا مقاربة.

قد تكون تلك المواقف لأول وهلة طبيعية ومتوقعة من أي طفل؛ وهذا ما يجعل الكثيرين يقعون في الفخ!

أي فخ؟

وماذا يمكن أن تدل عليه مواقف كتلك؟

في الحقيقة إن تكرار تلك السيناريوهات بشكل متوالٍ في الأسبوع الواحد هو في أغلب الأحوال إشارة قوية إلى أن طفلكم يقبع تحت سطوة (الكرسي الهزاز)!!

وهو بحاجة للمساعدة قبل أن تتفاقم حالته أكثر. المربك أن تلك المواقف تبدو طبيعية ومتوقعة من الأطفال! وهذا سبب كتابتي هذا المقال؛ ليساعدك في التمييز؛ فربما تكون أنت أيضًا عزيزي القارئ متربعًا على ذلك الكرسي منذ مدة طويلة، تعاني منه ولا تعلم، يؤذيك ولا تسلم من حركته التي لا تتوقف، وقد تكون هذه اللحظة هي بدء مسار الصحوة.

ما هو الكرسي الهزاز؟

بكل بساطة هو عندما يتأرجح عقلك في مكانه ذهابًا وإيابًا؛ فيكون أسيرًا لفكرة سلبية عالقة، تأخذه يمينًا ويسارًا، ولكنها لا تخطو به إلى الأمام، بل العكس؛ هي تمتص طاقته، وتُنهي وقوده، وتطفئ شعلته، وهو لابث في مكانه لم يتحرك!

بمعنى متعارف عليه أكثر: إنه "القلق"، ولا أعني هنا منسوب القلق الطبيعي الذي ننال حظنا منه جميعًا من أجل أن تستتب حياتنا بأمان، وإنما أشير هنا لـ"القلق المَرضي" الذي يرتفع منسوبه عن الحد الطبيعي؛ فيفيض توتره على الأجواء، ويقيد صاحبه، ويجعله سريع الاحتراق، كثير الانفعال، كثير المخاوف، قليل الصبر، دائم التفكير في كل شيء، ما يلزم وما لا يلزم.. يغرق في التفاصيل المهمة وغير المهمة، حتى يتعثر بها، ولا يعود قادرًا على النهوض؛ فهو يخشى المستقبل، وكثيرًا ما يتخيل سيناريوهات كارثية مخيفة أو سلبية، لا أساس لها من الصحة.

القلق المَرضي ذلك الاضطراب الخفي، الذي يختلط مفهومه مع القلق بمفردته الدراجة كثيرًا في حواراتنا وإشاراتنا المتكررة للشخص المزعج، أو الطفل الذي لا ينام، وغيرهما من ظواهر طبيعية.

المشكلة أن القلق المَرضي يُقيِّد حامله؛ فهو شبح يجعله يرى الدنيا من منظور غير حقيقي؛ فيصبح تقدُّمه ثقيلاً، وخطواته مترددة، وأنفاسه ضيقة.

القلق السلبي يسلبك الطمأنينة؛ لأنه يشتت عقلك في البحث والتفكير بالمخاطر المحتملة، ويجعلك أكثر حساسية تجاه الأحداث، وكأنك جهاز كهربائي بقوة ١١٠ ڤولت، ولكنه متصل بكهرباء قوتها ٢٢٠ ڤولت؛ فأنت متحفز أكثر من اللازم، ومتأهب لما هو غير آتٍ.

وقد تلازمه أعراض جسمانية، كالصداع والتعرق والخفقان.. أما الطفل فقد تصاحبه أعراض متنوعة، كالتبول اللا إرادي، كوابيس ليلية، تعلُّق زائد، قرض الأظافر.. وغيرها.

ما أشدد عليه هو ألا نتهاون في الأعراض المتكررة التي نخالها طبيعية وما هي إلا علامات واضحة للقلق المَرضي؛ فكل ما تحتاج إليه هو التحقق من الأمر من متخصص في الطب النفسي، تليه حوارات عميقة وجلسات متخصصة؛ لتغيير مسار تلك الأفكار وتقويمها، حتى ينطلق صاحبها بعيدًا عن بحور السلبية والمخاوف المتوالية في ذلك الكرسي الهزاز بأفكار لا تسمن ولا تغني من جوع.

فإهمالها سيجعل صاحبها، كبيرًا كان أو صغيرًا، يعاني مما هو غير موجود إلا في بحر خياله السلبي، حتى يتمكن منه القلق، ويرميه في غيابة الاكتئاب.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org