حملة ميجي الإصلاحية اليابانية ورؤية 2030

في منتصف القرن السابع عشر فرضت اليابان على نفسها عزلة اختيارية صارمة بالمنع شبه التام من التعامل مع كل الأجانب، أو السماح لسفنهم بالرسو على شواطئها، لفترة امتدت لنحو 215 سنة. كان الغرب حينها يقطف تدريجيًّا غراس الجهود التي سخَّروها لتطوير التعليم والصناعة والزراعة، بينما عاشت اليابان مرحلة تقهقر وتدهور على جُل المستويات. ومع مرور الوقت تزايد عمق الفجوة المعرفية بين اليابان والدول الغربية، وزادت الثورة الصناعية من تمايز الفروقات في القدرات العسكرية والاقتصادية، حتى أتت حروب الثورة الفرنسية وصراعاتها العالمية؛ لتعجل من مصير الاصطدام الحتمي بين الشرق والغرب، وهو ما اصطلح على تسميته لاحقًا بصدمة الحداثة.

وجدت اليابان نفسها أمام خيار وجودي للانفتاح على العالم، وإطلاق حملة إصلاحات عاجلة وشاملة لإنقاذ نفسها. ومن حسن حظ اليابان حينها أن اعتلى عرشها الإمبراطوري شاب متقد كشعلة من الحماس والنشاط، يُدعى "ميجي"؛ ليكمل ما بناه والده وأجداده، وينطلق لتأسيس مرحلة جديدة، أعاد فيها بناء اليابان على الطراز الحديث، ونقلها من دولة متأخرة، تعيش في العصور الوسطى، إلى دولة صناعية كبرى، ممسكة بيدٍ مشعل التحديث والتنوير، وباليد الأخرى ميثاق التعهد بالحفاظ على التقاليد والتعاليم البوشيدية التي تدعو إلى الفضائل والأخلاق الرفيعة الأساسية في المعتقدات الكونفشيوسية. وجد الإمبراطور الشاب نفسه أمام تحديات عظام، وأزمات جسام، وزاد من تأزيمها الأطماع الخارجية التي تترصد ببلاده، إلا أن شخصيته الرزينة والحكيمة مكنته من كسب ثقة شعبه، والعبور به إلى بر الأمان؛ إذ كان شجاعًا دون تهور، ومترويًا دون إبطاء، وحازمًا دون بطش، ولينًا دون انكسار، ومتواضعًا دون هوان. راهن على شعبه وقضيته التي تتمحور حول تغيير اليابان من أجل اليابان، وأحاط نفسه بمجموعة من المستشارين المخلصين، وبنى فريقه الإشرافي والتنفيذي الذي زاد على 400 شخص، وحرص على اختيار العقول المبدعة للمناصب القيادية، فسطَّر بهم أحد أهم قصص النجاح في أسس النماذج النهضوية في التاريخ المعاصر.

أثناء استعراش ميجي وقع ما يسمى بالقَسَم الخماسي، الذي يضم المبادئ الخمس التي قامت عليها حملته الإصلاحية، التي تتمحور حول إلغاء الطبقية الاجتماعية والاحتكار، وتشجيع النقاش المفتوح، وتوحيد السلطتين العسكرية والمدنية لحماية كل الطبقات والمصلحة القومية العليا، والتخلي عن جميع العادات السيئة السابقة، والتشجيع على اكتساب الثقافة والعلوم العصرية في أي مكان في العالم. لقد كانت بحق حملة إصلاحية مثيرة في أحداثها، عميقة وغزيرة في تفاصيلها. ولعل دونالد كين، البروفيسور الأمريكي من أصل ياباني، المتخصص في الأدب والتاريخ الياباني، أحد أبرز من حلل هذه التجربة في كتابه الذي يربو على ألف صفحة، والمعنون بـ"إمبراطور اليابان - ميجي وعالمه، 1852-1912".

تزامن إطلاق حملة ميجي الإصلاحية مع إطلاق حملات إصلاحية أخرى، قامت بها دول عربية. ورغم تشابه الظروف نجحت اليابان نجاحًا مبهرًا، بينما فشلت تلك الدول العربية في تحقيق إنجازات تُذكر. وأحسن الدكتور مسعود ظاهر في محاولته تفسير الأسباب في كتابه المعنون بـ"النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج"؛ إذ يمكننا تلخيص أهمها في تمييع السيادة الوطنية، والتغريب الأعمى، وتسليم خزائن دولهم للأجانب، وإمعانهم في تحميلها بالديون، وانتشار الفساد والرشاوى، وتهرُّب الأجانب من دفع الضرائب..

ومع اختلاف السياق التاريخي لما حدث في اليابان نرى اليوم في السعودية أنموذجًا إصلاحيًّا مبهجًا، يقوده الأمير الشاب محمد بن سلمان -حفظه الله- في ظروف كانت تشبه إلى حد ما تلك التي واجهها الإمبراطور الشاب ميجي حين أطلق حملته الإصلاحية. لم نعد نتحدث عن رؤية 2030 بصيغة المستقبل فقط (سوف نحقق...، سوف نصل...)، بل بصيغة الماضي أيضًا (حققنا...، وصلنا...).

بدأ قطف ثمار الإنجازات يتسارع، فتعلمنا من سموه كيف كانت أحلامنا متواضعة مقابل ما يحلم به لهذا الوطن وأهله. كما علمنا التاريخ مرة تلو الأخرى أن النجاح حليف أولئك القادة الذين يعملون بإخلاص من أجل شعوبهم، ويسعون إلى إصلاح أوطانهم لأجل أوطانهم، وبسواعد أبنائهم، كما هي حالنا بفضل من الله.

ومع اقتراب الذكرى الثانية والتسعين لليوم الوطني، وتأملنا لملحمة هذا الوطن الأشم، تسارع بلادنا الخطى لتواصل شق طريقها نحو المجد والسؤدد، متمسكة بدينها الأغر، ومعتزة بتقاليدها الأبية، ومتسلحة بالعلم والتنوير؛ لتكون في الصف الأول.. حيث تنتمي.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org