هل أنت مصاب بالأُميَّة الشعورية؟
يوسف طفلٌ في السابعة في زيارة عائلية مع والدته، وجاءها بعد مُضي ساعة وقد تغيَّرت ملامحه، وانعزل بدون سبب واضح عن بقية الأطفال محتميًا بالوجود إلى جانبها، فسألته أمه: "وش فيك زعلان؟"، فردَّ: "أبي أرجع البيت، بيتهم مو حلو". الأم: "عيب يا يوسف!!". وانتظر بجانب والدته حتى حان وقت المغادرة.
عاد يوسف تلك الليلة لسريره محملاً بشعور استياء خفي، لم تستوضح أمه معالمه، ولم يتم التعاطف معه.
ماذا يحدث عندما تتكرر مواقف بسيطة مثل تلك على مدار الأيام والأعوام؟ حتمًا ستبدأ ملامح الأُميَّة الشعورية، ذلك الداء الذي يصيب الكثيرين منذ الطفولة المبكرة بسبب تكرار مواقف مشابهة لتلك عندما يتم إقصاء المشاعر، وتجنُّب التعامل معها.
قد يجتهد الوالدان في تحسين كل شيء في ذلك المخلوق، ولكن يهملان المشاعر، وينسيان ملاحظة الوجدان؛ لأنها -أي المشاعر- دفينة، وغير واضحة، وسهلة الانكماش والاختباء! فيصبح ذاك الطفل بالغًا مصابًا بأُمية شعورية، تلازمه في محطات حياته.
* ما هي الأمية الشعورية؟ ولِمَ هي خطيرة؟
الأُمية الشعورية هي عندما يتعود الشخص أن يدفن مشاعره، ويخفيها، ويقصيها، ولا يجد مَن يساعده في فهمها، أو التعبير عنها، ومن ثَم التعامل معها، مهما بلغت بساطتها.
مشكلة الأُمية الشعورية أنها تدفع الإنسان أحيانًا لسلوكيات خاطئة، أو إدمانية عميقة؛ والسبب أن ثمة خواء مشاعريًّا بداخله، لم يتعلم كيف يتعامل معه عندما يحدث! لأنه لم يعتد أن يقف عند الموقف ليتأمل شعوره وأسبابه ونواتجه؛ فتتراكم عوالق شعورية بلا تفسير، تجر خلفها تعثرات وخيبات غير مفهومة!
لا تنتظر أن تتعقد الأمور أكثر.. ما دام ابنك حولك يمكنك أن تُجنبه كل تلك التبعات عندما تتعامل مع كل شعور يمرُّ به طفلك بجدية تامة، بثلاثة أسئلة ذهبية:
1- بماذا تشعر؟ هل يمكن أن تسمي شعورك؟
2- لماذا تعتقد أنك شعرت بذلك؟
3- كيف يمكن أن تتعامل مع هذا الشعور الآن؟
تذكَّر: لا يهم الآن رأيك بسخافة الموقف الذي شعر طفلك بالاستياء من جرائه، أو مدى المبالغة التي يقوم بها، من خوفه من الوحوش تحت السرير، أو الشرطي خلف الباب، أو تعليق تلك المرأة.. ما يهم هو أنه الآن يشعر بشعور ضبابي؛ ويجب عليك بوصفك مربيًا أن تُعلِّمه كيف يتعامل مع تلك الغمامة حتى تنقشع؛ ليصبح بعدها قادرًا على الرؤية بوضوح؛ ومن ثم التعامل مع الموقف بمنطقية وتعقُّل، مهما بلغ حجمه، صغيرًا أو كبيرًا، جديرًا بالنقاش أو تافهًا لا يعني لك شيئًا.. فكل ما يهمنا هنا هو أن يعي ذلك الصغير أن مشاعره لا تحدث بدون سبب، وأن إهمال الشعور السيئ، بل حتى الشعور الجيد، سيجر أضرارًا لا تُرى، ولكنها تتراكم، وتُلقي بصاحبها في دوامات من القلق، أو الشعور بالذنب والحزن، أو الانطواء؛ لأنها لم تعالَج في حينها عندما كانت "تافهة".
دعونا الآن نعود للموقف الذي حصل مع يوسف في البداية، ونحلله بأسلوب واعٍ إيجابي.
لو كان رد الأم على يوسف كالآتي: "واضح أنك متضايق. تعال نفهم وش فيك". فتأخذ بيده، وتتنحى به جانبًا، وتنظر في عينيه:
- "أوه، يوسف فعلاً زعلان"
- يوسف: "إيه أنا مرة زعلان"
- الأم: "إيه حاسة فيك، بس إيش صار؟"
- يوسف: "كنت قاعد ألعب سوني مع طلال وبعدين جا نواف وأخذ يد السوني وقال لي أنت ما تعرف تلعب، وصاروا يلعبون، وتركوني لحالي"
- الأم: "أووه، الحين فهمتك أنت حسيت بالإقصاء، طيب كيف ودك تتصرف معهم؟"
- يوسف: "مابي أكلمهم بروح البيت"
- الأم: "نروح البيت لكن بعد ما نتفق كيف تحب تتصرف معهم"
- يوسف: "طيب بروح أقولهم أنا أعرف ألعب أحسن منكم"
- الأم: "إذا قلت كذا بيصير شعورك أفضل؟"
- يوسف: "إيه، لأن أنا أعرف ألعب وبصير أحسن منهم"
ثم توجَّه يوسف لهما، وقال بكل قوة: "أصلاً أنا أعرف ألعب أحسن منكم"
انتصر يوسف لنفسه بعدما شعر بالإقصاء والإهانة. فَهِم الشعور، وتعامل معه، وعاد للمنزل بلا ثقل يلازمه، وانتهت الحكاية هنا، وتعلم هذه المرة أن يعالج الموقف، ويفهم سبب استيائه، بل إن بإمكانه التصرف.
المطلوب منك عزيزي المربي أن تساعد صغيرك في تفكيك الشعور إلى عوامله الأولية؛ حتى يقرر هو أنه فعلاً لا يستحق، ولا تكن أنت من يقرر ذلك من البداية؛ فالفارق في التوقيت يصنع الفرق!
إن قرار الطفل ونظرته الأكثر تعقلاً للموقف هو ما يجعله يتحرر من الشعور السلبي، وينضج في كل مرة يتعرض لمواقف صعبة.. أما قرارك أنت عن ماهية مشاعره وتسطيحها! يُحوله إلى شخص مصاب بالخرس العاطفي والأمية الشعورية شيئًا فشيئًا.
أما عن نتائج ذلك الخرس فتكمن قصة أخرى، وخطوة في نفق أعظم، ومنزلقات نفسية، يصعب الخروج منها، قد تجر صاحبها لدوامات الإدمان السلوكي، عندما يقع الشخص أسيرًا لعادة ما تضره، بل قد تدمره، ولكنه لا يمتلك المقدرة على تركها.
لذا عزيزي المربي إن حماية أطفالك من دهاليز المشكلات النفسية تبدأ عندما تتعامل مع مشاعرهم بأهمية وحرص، تمامًا كما تقلق وتهتم لطعامهم وشرابهم.