"فومو"..!
في ظهيرة أحد الأيام تُعِدُّ كوب قهوتك بعناية مراعيًا كل التفاصيل التي تهمك حوله: نوع البُن، حجم الكوب ودقة حافته، وربما قطعة شوكولاه انتشلتها من أرفف السوبرماركت لتعانق هذه اللحظة، وتستمتع بمزيج ثنائي بتلك الرشفة التي تنتظرها منذ الصباح، وكأن تلك اللحظات تمنحك وقودًا وسعادة تشحنك بقية اليوم.
وبحركة عفوية تمسك الهاتف في اليد الأخرى، وتقلب فيه بين عوالم ومحطات بعيدة وقريبة، ثم تمرُّ على صور أكواب قهوتهم في أماكن تبدو أكثر جمالاً محاطه بطبيعة خلابة، أو مع صحبة جذابة، أو في مقهى ذاع صيته، أو في مكان عمل لطالما تمنيته!
ما هي إلا لحظات حتى تشعر بفتور تجاه قهوتك، وانخفاض مفاجئ في مستويات الدوبامين التي كانت للتو تتأهب لتتدفق إلى ثنايا جسدك، وتمنحك الطاقة والتركيز لإنجاز مهامك، ولكن شيئًا ما حدث، جعل ذلك التوازن يختل، وإحساسك بتلك اللحظة يبرد، وكأنك أرجأت قرار السعادة لإشعار آخر!
أجزم بأن الكثيرين منا قد صادفوا مثل تلك الحالة على اختلاف مشاهد السعادة البسيطة الخاصة بهم، وسرعان ما بهتت وجفت ينابيعها بعد ما باغتهم ذلك الإحساس!
إنه "الفومو- Fomo ": فوبيا فقدان ما يفوتك في الخارج، "Fear Of Missing Out". إنها متلازمة العصر الجديد، ومن أكبر سلبيات انفتاح العوالم الخاصة للآخرين على بعضها بكل حذافيرها، وتزداد سطوتها عند تدني مستويات الثقة والرضا عند البعض، أو لمجرد مزاج سيئ؛ فهو كفيل بأن يجعل ذلك الشعور الوهمي يفسد لحظتك أيما كانت، ويزج بك في بحر عدم الاكتفاء، لمجرد الشعو بأنه ثمة شيء أفضل خارج محيطك، وخلف جدران حدودك، ولم تستطع الوجود فيه!
دعونا نواجه الحقيقة بوجود ذلك الشعور، واختناق البعض به حتى سيطر على حياتهم؛ فصارت لهثًا وركضًا خلف كل جديد، وفقدت اللحظات البسيطة رونقها؛ لأنها لم تعد كافية؛ فهناك شعور مُلحّ يناجيك؛ ليخبرك بأنه في مكان ما في هذه اللحظة شيء أفضل، ويجب اللحاق به قبل أن يفوت الأوان!!
عزيزي اللاهث خلف متع الحياة، اطمئن.. ليس بالضرورة أن نتذوق كل شيء، ولا أن تسافر لكل مكان، ولا أن تختتم منهج المطاعم التي ذاع صيتها والمأكولات المستحدثة في وقتها! المهم.. هو توقيتك أنت، وحياتك أنت، وشعورك الدافئ الذي قد يراودك في بيتك مع كوب ورقي بسيط، أو اجتماع عائلي حميم.. فلا تقاس اللحظات بثمنها، ولا مكانها، وإنما بعمق الشعور والحضور والاستمتاع بها بكامل تفاصيلها، والامتنان لله على استشعارك لها.. فالحكمة تقول: العبد حُرٌّ إذا قنع، والحُرُّ عبدٌ إذا طمع.
عمرك لحظات محدودة فلا تضيعها باللهث خلف ما لست فيه الآن؛ فيضيع ما بين يديك؛ فلا أنت استمتعت به، ولا أنت لحقت بالسراب؛ فتخرج صفر اليدين مبتور اللحظة ساخطًا وممتعضًا!
فكما يقولون: عصفورٌ باليد خيرٌ من عشرة على الشجرة. والقناعة هي حجر الفلاسفة الذي يحوِّل كل ما يمسه إلى ذهب.