عودة الخط العربي للمناهج التعليمية.. حفظ للهوية وصون للغة

تم النشر في

في زمنٍ تغيّرت فيه الأدوات وبقيت اللغة العربية أصلًا ثابتًا، يعود الخط العربي اليوم ليذكر الأجيال أن الجمال يبدأ من الحرف، وأن الكتابة ليست مهارة فحسب، بل هوية تصاغ بالحبر والوعي.

ومع زمان تتسارع فيه التقنية وتغيب فيه التفاصيل الجمالية، تأتي عودة تدريس مادة الخط العربي في المدارس كخطوة تعيد للتربية معناها الأصيل، وللحروف العربية هيبتها التي كادت أن تبهت في زحمة الأجهزة والشاشات.

فالخط ليس مجرد رسم للحروف، بل هو فن يهذب الذوق، وينمي الصبر، ويعلم الانضباط، ويربط الطالب بجذوره اللغوية والحضارية.

قال الخطاط الكبير ابن مقلة: "الخط هندسة روحانية بآلة جسمانية"، وهي عبارة تختصر جوهر الفكرة التي يسعى التعليم اليوم إلى إحيائها من جديد، فكل حرف جميل هو روح تتجلى على الورق.

لأجيال كثيرة، كان الخط العربي ميدانًا للمنافسة بين الطلبة، ومصدر فخر للمدارس والمعلمين، حتى تراجع تدريجيًّا، ففقدنا معه أحد مظاهر الجمال في الكتابة، وأصبحنا نرى النصوص تكتب بلا روح ولا أناقة.

واليوم بإعادة هذه المادة، يعود المعنى إلى الفعل التربوي، وتعود الحروف إلى مكانها الطبيعي في بناء الشخصية قبل الورق.

ومن يتأمل حال الإملاء والخط لدى طلاب اليوم يدرك الحاجة الملحة إلى إعادة النظر في مناهج اللغة العربية، بحيث تفصل المهارات الأساسية كالقراءة والإملاء والخط والتعبير والقواعد في كتب مستقلة تمنح العناية الكافية والوقت اللازم لتقوية مستوى الطلبة.

فدمج هذه المهارات في كتاب واحد أضعف الإتقان، وأفقد الطلاب القدرة على ممارسة الكتابة السليمة وجماليات الخط العربي كما كانت الأجيال السابقة تكتسبها بوضوح وثبات.

وفي هذا السياق، أرى ضرورة أن تواصل وزارة التعليم دعم هذا التوجه وتطويره، بحيث لا يقتصر على مادة الخط العربي وحدها، بل يمتد ليشمل إعادة الاعتبار لبقية المهارات اللغوية الأساسية كالقراءة والإملاء والتعبير والقواعد. فهذه الفروع تستحق أن تفصل في مناهج مستقلة تمنح الوقت الكافي والعناية اللازمة، لما لها من أثر مباشر في ترسيخ اللغة وصون الهوية.

إن حماية لغتنا العربية تبدأ من المدرسة، وصونها مسؤولية تربوية ووطنية في آنٍ واحد.

فبينما تتجه المناهج الحديثة إلى توظيف التقنية والذكاء الاصطناعي في التعليم، تبقى مهارات الخط والإملاء ركيزة إنسانية تحفظ التوازن بين الرقمنة والهوية، وتضمن أن لا تذوب روح اللغة وسط الشاشات.

الدراسات التربوية الحديثة تؤكد أن ممارسة الكتابة بخط اليد تنشط مناطق في الدماغ مسؤولة عن التفكير والتحليل، وهو ما يجعل الخط العربي أداة للتعلم المعرفي لا الجمالي فحسب، إذ يجمع بين المهارة الذهنية والحسية، ويغرس الانتباه والتركيز والانضباط في نفوس المتعلمين.

كما أن الاهتمام بتدريس الخط العربي لا يقتصر على الحفاظ على جمال الحروف، بل يتجاوز ذلك إلى تحسين مهارات الكتابة لدى الطلاب، وتعويدهم على الدقة والاتزان والوضوح في التعبير.

فالتدريب المستمر على الكتابة بخط جميل يُنمي الصبر، ويعلم التناسق بين العين واليد، ويجعل الطالب أكثر وعيًا بشكل الحرف ومعناه في آنٍ واحد.

وتنسجم هذه الخطوة مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 في تعزيز الهوية الوطنية، وحماية اللغة العربية بوصفها ركيزة للثقافة والتعليم، واستثمارها في بناء جيل يعتز بلغته كما يواكب أدوات المستقبل.

لم تعد جماليات الخط العربي حكرا على دفاتر الطلاب، بل تجاوزت ذلك لتصبح جزءًا من الهوية البصرية للمملكة في شعاراتها ومشروعاتها الكبرى، من رؤية 2030 إلى المدن الحديثة ومطاراتها، وهو ما يعكس عمق الارتباط بين الحرف العربي وروح المكان السعودي الجديد.

القرار يحمل في جوهره رسالة تتجاوز التعليم إلى الثقافة والهوية، ويعزز أحد ركائز رؤية السعودية 2030 التي تولي اللغة العربية مكانتها اللائقة ضمن المنظومة التعليمية والثقافية.

كما أنه يفتح المجال أمام جيل جديد ليتذوق جمال الخطوط العربية ويستشعر في كل انحناءة قلم روح الإبداع العربي والإسلامي الممتدة عبر القرون.

ختام ما أقوله.. عودة تدريس الخط العربي ليست رجوعًا للماضي، بل هي تقدم نحو المستقبل بهوية أكثر وضوحًا، ولغة أكثر جمالًا، ووعي بأن الحرف العربي ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو صورة لروح الأمة التي تكتب وتبني وتبدع.

فاللغة التي تكتب بخط جميل تزرع فكرًا جميلًا، والأمم التي تحفظ حروفها تحفظ تاريخها ومستقبلها معًا، فالحروف التي نعلّم أبناءنا جمالها، ستكتب مستقبلًا أجمل لوطنٍ يضع لغته في مكانها الذي تستحقه.

فحين نحمي الحرف نحمي الذاكرة، وحين نعيد للخط مكانه، نعيد للأجيال قدرتها على الكتابة بوعي و انتماء بثقة.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org