توثيق عبث الاستراحات أسقط وقار الكبار
في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة مزعجة ومؤلمة على منصات التواصل الاجتماعي، تتمثل في تصوير مقاطع داخل الاستراحات تُظهر بعض كبار السن – ممن تجاوزوا الخمسين والستين من العمر – في مواقف عبثية بعضها مخجلة، أو تصرفات لا تليق بمكانتهم العمرية والاجتماعية، ثم نشرها على جميع الناس تحت عناوين غريبة مثل: التلقائية، عيش حياتك، أو خفّة الدم. والحقيقة أن ما يُقدَّم على أنه عفوية أو مرح، هو في كثير من الأحيان استخفاف بالذات، وإساءة غير مباشرة للتاريخ الشخصي، وللأبناء والأحفاد، بل ولصورة كبار السن في المجتمع ككل.
لا أحد يعترض على الفرح، ولا على الترويح عن النفس، ولا على الضحك والمزاح بين الأصدقاء. فالحياة لا تُعاش بالجد فقط، والإنسان بحاجة إلى لحظات يخفف فيها عن نفسه أعباء العمل والمسؤوليات. لكن الفارق كبير بين الفرح المحترم، وبين تحويل تلك اللحظات الخاصة إلى مادة للاستخفاف والسخرية العامة، عبر تصوير حركات غريبة، أو رقص مبالغ فيه، أو تقلب على الأرض، أو الظهور بملابس غير لائقة، ثم نشر ذلك بلا وعي بعواقبه.
المشكلة لا تقف عند حدود الشخص الذي يظهر في المقطع، بل تمتد لتصيب أسرته كاملة. كيف سيشعر الابن أو الحفيد عندما يرى والده أو جده مادة للتعليقات الساخرة، أو المقاطع المتداولة، أو "الترند" العابر؟ كيف ستترسخ في ذهن الأجيال صورة القدوة والوقار، إذا كان الكبير نفسه يشارك – بقصد أو دون قصد – في هدم هذه الصورة؟ إن الأبناء لا يتأثرون بما نقوله فقط، بل بما نفعله، وبما نسمح بنشره عنا.
ومن المؤسف أن بعض من يصورون هذه المقاطع لا يكتفون بالتوثيق، بل يتعمدون الاستفزاز فيقربون الكاميرا من الوجوه بشكل سيء، أو يلقون عبارات لا تليق، أو يضحكون بطريقة توحي بالاستخفاف بالشخص الذي يتم تصويره، وكأن الهدف ليس الذكرى، بل الحصول على المشاهدات والإعجابات على حساب كرامة الآخرين. هنا يتحول “التوثيق” من فعل بريء إلى إساءة صريحة.
الأكثر إيلاماً أن هذه الظاهرة تُبرر أحياناً بشعارات خادعة: دع الناس تعيش حياتها، لا تعقّد الأمور، الدنيا بسيطة. نعم، عيشوا حياتكم، وافعلوا ما يريحكم، واضحكوا وارقصوا إن شئتم، ولكن دون تصوير، ودون نشر، ودون توثيق. هناك فرق بين ما يُفعل في الخاص، وما يُعرض في العام. ليس كل ما يُفعل يُصوَّر، وليس كل ما يُصوَّر يُنشر.
لقد عُرف كبار السن في مجتمعاتنا بالحكمة، والاتزان، والهيبة الهادئة. وهذه الصورة لم تأتِ من فراغ، بل من تجارب طويلة، ومواقف، وتاريخ شخصي واجتماعي يستحق الاحترام. التفريط في هذه الصورة من أجل مقطع عابر، أو ضحكة مؤقتة، أو "مشاهدات" لا قيمة لها، هو خسارة أكبر مما يظنه البعض.
إن احترام الذات يبدأ من احترام حدود الخصوصية، واحترام العمر، واحترام ما يمثله الإنسان في أسرته ومجتمعه. والتوقف عن تصوير "استهبال الاستراحات" ليس دعوة للكآبة، ولا لإيقاف مواقف الفرح، بل دعوة للوعي، وللتمييز بين المرح الراقي، والعبث الذي لا يليق. افعلوا ما يريحكم، نعم، ولكن اتركوا الكاميرا جانباً، فليس كل شيء صالحاً للتوثيق، وليس كل لحظة تستحق أن تُنشر.
أعجبني تعليق لأحد المغردين حين قال طلبت من أولادي سحب الجوال مني إذا وجدوا أنني بعد التقاعد أصبحت بلا وعي وكنت مخالف للعادات والتقاليد والأعراف المجتمعية. نسأل الله أن يحسن خاتمتنا جميعا وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها..
