مفتاح مكارم الأخلاق

تم النشر في

في ليلة قمرية هادئة وسط صحراء الربع الخالي، وأنا مستلقٍ فوق كثيب رمل، وفي سكون أسمع فيه طنين أذني، يختفي هذا السكون للحظات بسبب صوت رغاء بعض إبلي، ثم يعود سريعًا بعد أن تهدأ. نظرت فوقي فإذا بسماء حالكة السواد، ونجوم كاللؤلؤ المنثور على عباءة سوداء. أطلت النظر في السماء فتحفز الجانب الروحي فيَّ؛ فقلت لنفسي لماذا أنا هنا؟! وما هو سبب وجودي؟! وماذا يجب أن يكون هدفي الرئيسي في هذه الحياة؟! هذه الأسئلة المعقدة أرهقت تفكيري المحدود، ولِمَ لا؟! وهي قد أرهقت عقول مفكرين وعلماء قاموا بتأليف كتب ومجلدات للإجابة عن هذه التساؤلات، وتُعادل كمية المعلومات فيها أضعافًا مضاعفة المعلومات التي سأقوم بذكرها في مقالتي هذه.

أعانني الله سبحانه وتعالى، وأتى أمام عيني حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فثار بركان التساؤل في نفسي: ما هو المقصود من هذا الحديث؟ وما هي مكارم الأخلاق المقصودة؟ وهل من الممكن أن أقوم بحصرها؟ وإن كان سيد الخلق أجمعين بُعث لهذه الغاية فمَن أنا حتى لا تكون هذه الغاية هي هدفي الذي أبحث عنه؟

بعد هذه التساؤلات الكثيرة وضعتُ كلمتَي "مكارم الأخلاق" في كبد السماء فوقي، وقمت بالتأمل فيها، وقلت لنفسي: ما هو مفتاح هذه السلوكيات والأفعال النبيلة والمسماة بمكارم الأخلاق، التي يسعى لها الجميع، وبعضنا يُوفَّق بالقيام بها بالشكل المطلوب، وبعضنا يفشل أو يتكاسل عن فعلها. فوجدت أن مفتاح مكارم الأخلاق هو بتجنب الأفعال التي لا يحب الله مَن يفعلها.

أيها القارئ، أعلمُ أنك الآن تُحدِّث نفسك وتقول: ما الجديد؟! وما هي الأفعال التي لا يحب الله من يفعلها؟! وهل المقصود تجنب جميع الذنوب والمعاصي؟! إلى آخره من هذه الأسئلة المنطقية.

ومن منظور شخصي، مفتاح مكارم الأخلاق يتشكل بقاعدتين أساسيتين، وإذا وضعتهما في أي فعل تقوم به فسوف تصل للغاية المرجوة، وأضمن لك أنك ستتجنب جل الأفعال التي لا يحب الله مَن يفعلها.

وللأسف، كوننا بشرًا لن نقوم بتطبيق هاتَين القاعدتَين بنسبة ١٠٠٪؜، ولن نتجنب جميع الأفعال التي لا يحب الله فاعلها.. ولكن كلما زادت نسبة تطبيقنا لهاتَين القاعدتَين زادت نسبة تحقيق الغاية التي بُعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجلها، وهي مكارم الأخلاق.

القاعدة الأولى: "رضا الله هو الأساس والمركز في أقوالي وأفعالي"

على سبيل المثال، أن تقوم بالاجتهاد في عملك لكي يزيد دخلك الشهري، أو أن تجتهد في دراستك لكي تحصل على درجات عالية. هاتان الغايتان في المثال السابق تستطيع أن تجعل الله مركزًا لهما حينما تقر بقلبك بأنك بالدخل العالي والدرجات المرتفعة ستكون قويًّا، وفي الحديث "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير".

القاعدة الثانية: "لا إفراط ولا تفريط، وكن معتدلاً قدر الإمكان"

والاعتدال في هذه القاعدة صعب، ولكن يحاول الإنسان قدر المستطاع أن يكون أقرب للاعتدال. ومن الأمثلة: مشاعر الحب والبغض.. وباعتدال هذه المشاعر تتعدل أمور كثيرة في حياة الشخص. وقد قيل في الحب "ومن الحب ما قتل"، وقيل في البغض "البغض سلاح الضعفاء".

وهذه القاعدة يندرج تحتها أمثله كثيرة، منها الإفراط في صفة الكرم الذي ينتج منه الإسراف. والتفريط في صفة الكرم ينتج منه البخل. والاعتدال هنا هو المطلوب والمحبب عند الجميع. ولن نحقق الاعتدال في هذه القاعدة إلا بتفعيل القاعدة الأولى، وهو وضع رضا الله في جميع أقولنا وأفعالنا.

أعلمُ أن البعض يتساءل الآن عن مفهوم الحب والبغض في الله؛ لذلك أكرر ما أسلفت ذكره للتذكير، وأقول إن القاعدتين المذكورتين مقرونتان ببعضهما. ومن منظور شخصي، لن يحصل أحد على مفتاح مكارم الأخلاق إلا بتطبيقهما معًا.

فالحب إذا كانت مركزيته لله سيكون حبًّا صادقًا ومعتدلاً، فمن أحب والديه بهذا الحب أصبحت طاعتهما سهلة ومُيسَّرة، ومن أحب زوجته بهذا الحب صدق في حبها، ومن أحب ولي أمره بهذا الحب أطاعه في المنشط والمكره.

أما البغض في الله فإن كنت صادقًا، وتريد منه وجه الله، فإنك فقط ستبغض الأفعال التي حرم الله، ولن تسمح لنفسك بأن تصور لك بأنك شخصٌ معصوم من الأخطاء. وقبل أن تنصح المذنب سوف تحمد الله أنه عافاك من فعل هذا الذنب.

ومن كانت هذه نيته الحقيقية فإنه سيرى المذنب بعين الشفقة والرحمة، وسوف تكون نصيحته للمذنب في غالب الأحيان مقبولة؛ لأنها خارجه من القلب.

الخلاصة: مفتاح مكارم الأخلاق أن تضع الله مركزًا لنيتك في أقوالك وأفعالك. والتطبيق يكون باعتدال، لا إفراط ولا تفريط.

وأسألُ الله أن يوفِّقني ويوفِّق كل من يقرأ هذه المقالة لطاعة الله -عز وجل- بالشكل الذي يرضيه، وأن يعيننا جميعًا على أن تكون أعمالنا خالصة لوجهه.

ومن استخدم هذا المفتاح بكل صدق في جميع أقواله وأفعاله سيكون -بإذن الله- من أكرم الناس خلقًا في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org