من وهج الإنجاز إلى هدوء التوازن

تم النشر في

كان النجاح يوماً ما يُقاس بسرعة الخطى؛ بضجيج الاجتماعات، والهواتف التي لا تصمت، وبقهوة تُشرب على عجل بين موعدٍ وآخر. كنا نظن أن الانشغال علامة نضج، وأن من لا يملك وقتاً للراحة لا بد أنه يعيش ذروة إنجازه. كنا نُصفق لمن يركض أكثر، لا لمن يعرف كيف يتوقف.

في تلك الحقبة، كان الحديث عن "التوازن" نوعاً من الرفاهية. يُنظر إلى من يختار الهدوء كأنه شخص بلا طموح. كان المجتمع يحتفي بمن يسهر على شاشته حتى الفجر، أكثر ممن ينام مبكراً ويعيش يومه بسلام. وكأننا كنا نخاف أن يفوتنا شيء، ففضلنا الإرهاق على الفراغ، والإنجاز على الراحة.

لكن السنوات الأخيرة بدّلت شيئاً في وعينا الجماعي. صار النجاح يبدو مختلفاً… أهدأ، وأقرب للداخل. لم يعد في عيون الساهرين، بل في وجوه من ينامون بطمأنينة. لم يعد في ازدحام التقويم، بل في المساحات الفارغة التي نحجزها لأنفسنا.

صرنا ننبهر بمن يبدأ صباحه بخطواتٍ هادئة نحو ضوء النهار لا نحو المكتب، بمن يحتسي قهوته ببطء كأنه يحتفل بوجوده لا يهرب منه. الناجح اليوم هو من يختار ذاته، من لا يسمح لانشغالاته أن تلتهم حياته، من يعرف أن التوازن لا يُمنح، بل يُنتزع بحكمة ووعي.

ومع تغيّر القيم تغيّر شكل الحياة نفسها، وصار العمل جزءاً أكبر من هويتنا اليومية. لم تعد صورة النجاح حكراً على فئة أو مجال واحد. فقد اتسعت دائرة العمل لتشمل مجالاتٍ أكثر تنوّعاً للرجال والنساء على حد سواء، وتقدّمت المرأة بخطى ثابتة في المهن كافة، من الطب والتعليم إلى ريادة الأعمال والإعلام والتقنية. اتسعت المسؤوليات وتنوّعت الأدوار، وصار البحث عن الاستقرار النفسي تحدياً مشتركاً لا يفرّق بين جنسٍ وآخر. فالإنهاك أصبح مشتركاً، وكذلك الطموح، والرغبة في حياةٍ أكثر اتزاناً وإنسانية.

ومع هذا الانفتاح الكبير، أصبح التحدي الحقيقي ليس في الوصول إلى الفرص، بل في أن نحافظ على أنفسنا ونحن نركض بينها. لكن لو تأملنا أكثر سنكتشف أن هذا التحوّل ليس بسيطاً، لأن النجاح كما تصوّره المجتمعات مرتبط بالهوية والانتماء. نحن نكبر على فكرة أن "القيمة" تُقاس بما ننجزه لا بما نحسّه. فحين نهدأ نشعر بالذنب، وكأننا نخذل الصورة التي رسمها العالم لنا. نخاف أن يُفسَّر هدوؤنا ككسل، وأن يُنظر إلى اتزاننا كتنازل. هكذا يتأرجح كثير من الناس بين صوتٍ داخلي يطلب الراحة، وصوتٍ خارجي يطالب بالمزيد.

كثيرون ما زالوا يركضون، لا لأنهم يحبون السرعة، بل لأن التوقف يكلّفهم أكثر مما يحتملون. السكينة جميلة، لكنها تحتاج إلى مساحةٍ آمنة. ولذلك لا يمكن أن نُعرّف النجاح من منظورٍ واحد، لأننا لا نعيش الظروف نفسها، ولا نملك الإيقاع ذاته. النجاح بالنسبة للبعض أن يستمر دون أن ينهار، وبالنسبة لآخرين أن يتوقف في الوقت المناسب قبل أن يُرهق نفسه.

وأكثر ما يؤلم في كل هذا، أن التعب لا يظهر على الوجوه بقدر ما يسكن في الداخل. ومن خلال خبرتي المهنية في التعامل مع الناس، كثير من القصص تبدأ بجملة واحدة: "أنا متعب رغم أني أنجزت كل شيء." وهذا التعب ليس جسدياً فقط، بل تعب المعنى، حين ينجز الإنسان كل شيء، لكنه لا يشعر بأي شيء. حين يتحول الحلم إلى قائمة مهام، والطموح إلى ضغطٍ مستمر، يفقد الإنجاز قيمته الأولى. عندها يصبح النجاح الحقيقي أن تستعيد صلتك بنفسك، أن تتذكّر لماذا بدأت، ولمن تفعل كل هذا أصلاً.

لهذا، ربما لم يعد السؤال: كيف نبطئ؟ بل متى؟ ومتى نسمح لأنفسنا أن نركض؟ النجاح ليس في وتيرة السرعة أو البطء، بل في الوعي بتوقيتهما. أن نعمل بحبٍّ دون أن نحترق، وأن نرتاح دون أن نشعر بالذنب. أن نُنجز بوعي لا بردّ فعل، وأن نعيش بإيقاعٍ يخصّنا لا يفرضه العالم علينا.

وربما في أعماقنا جميعًا نحاول أن نصل إلى لحظة توازنٍ صادقة، لا بطءٌ كامل يجعلنا خارج الحياة، ولا سباقٌ دائم يجعلنا غرباء عن أنفسنا. نحاول أن نجد الإيقاع الذي يسمح لنا أن نعيش، لا أن ننجو فقط.

في النهاية، نحاول أن نهدأ بما يكفي لنجد معنىً لحياتنا وسط هذا الضجيج. ربما النجاح اليوم هو أن نكون صادقين مع أنفسنا، أن نعرف ما يكفينا، وما نستحق أن نتركه، وأن نحيا حياةً لا تُشبه أحداً، لكنها تُشبهنا تماماً.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org