تشاهد الأم ابنها الشاب الذي لم يُنهِ عقده الثالث بعد، مستلقيًا على الفراش الأبيض لا يكاد يتحرك منه شيء باستثناء عينيه.. والأجهزة الطبية المختلفة موصلة به تُمده بالحياة، ومواصلة العيش في هذه الدنيا الزائلة.. {كل من عليها فان}.
لكننا بشر نتألم ونملك مشاعر وأحاسيس وذكريات، لا تفتأ تفارقنا، وتذكرنا بأحلى الذكريات مع أحبابنا.. والأم ليست بدعًا في ذلك.
تأتي كل يوم قبل موعد الزيارة، متعلقة بالأمل والرجاء من خالق السماوات والأرض أن يعافي ابنها الشاب، وتراه في صحة وعافية؛ ولكن من يعلم القضاء والقدر إلا الله عز وجل، ومن يعرف ما هو الخير لنا {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
تمشي بين أروقة المستشفى بصعوبة بالغة. عقدها السادس لم يمنعها من زيارة أغلى ما تملك، ابنها.. تستعين وتستمد قوتها من الله عز وجل، ومن ثم بإرادة حديدية لا يعرف الوهن والضعف لها طريقًا.. تساندها في مشوارها عصاها التي أضحت جزءًا منها لا تكاد تفارقها.. تلتفت يمينًا ويسارًا تشاهد المرضى المنومين لمختلف العلات والأسباب.. يدور في خلدها أن ابني ليس وحيدًا، فهذا المستشفى وغيره يغص بالمرضى من مختلف الأعمار، وكأن الناس كلهم فيها.
وبعد شق الأنفس تصل الوالدة لمشاهدة مَن يسرها ويفرح قلبها مشاهدته؛ ابنها الغالي.. وحينما تتأمل وجهه المشع نورًا، تسأله عن صحته وهل يشكو من ألم؟ مع علمها يقينًا أنه لا يستطيع الكلام؛ فبعد رحلة مضنية من الأمراض عاشها الشاب -خصوصًا ضمور المخ- تدهورت صحته وفقد القدرة على الكلام والحركة؛ ولكن هل نحن كَبَشر إذا أردنا الكلام لا نملك إلا اللسان والشفتين فقط! لا، فهناك كلام القلب ولغة العينين والذكريات، فهذه كلها لغة تواصل تستخدمها الوالدة مع ابنها.
وبعد وقوفها بجانب ابنها متكئة على عصاها لا تعلم كم من الوقت أخذ ذلك؛ إلا أن الآلام المزمنة لركبتيها تنبئها بحتمية الجلوس، فتبحث عن كرسي في الممرات والأزقة، وحينما تجد واحدًا تجره بصعوبة حتى تضعه بجانب ولدها.
تُخرج مصحفها لتقرأ القرآن الكريم، وهي تعرف كم كان ابنها الشاب متعلقًا بالله سبحانه وتعالى وبقراءة القرآن والذهاب للمساجد.. تترك المصحف قليلًا لترفع أكفها تضرعًا ورجاءً وأملًا من الله أن يشفي ويعافي ابنها.. وتعود مجددًا لقراءة القرآن وهكذا أغلب وقت الزيارة.. لا تتوقف إلا حينما يأتي الزائرون، أو حينما يأتي فريق التمريض ليراقب الأجهزة الطبية التي تجعل ابنها -بعد الله سبحانه وتعالى- حيًّا معنا في هذه الدنيا الفانية.
تقوم وتجر معها كرسيها لتتيح للفريق الطبي أداء عملهم، وتراقبهم عن كثب وهم يعتنون بأغلى ما عندها.. عندها تغمض عينيها وتتذكر ابنها حينما كان جنينًا في رحمها؛ فقد حافظت عليه وأطعمته من جسدها وأخذ من صحتها وعافيتها.. {حملته أمه وهنًا على وهن}، وكان معها أينما ذهبت، ومع هذا كانت سعيدة لا تكاد تسعها الدنيا من الفرحة، وهي تشاهد جنينها ينمو ويتشكل شهرًا بعد شهر.. يا ليتك يا ابني تعود لأبدلك بهذه الأجهزة وهذه الغرفة، جزءًا آمنًا من جسدي تعيش وتأكل وتنمو حتى...