ما الذي يجعلنا نُخطئ بين الضوء والإنجاز؟

تم النشر في

نمرّر هواتفنا بأطراف أصابعنا، فتلمع أمامنا وجوه كثيرة. أسماء تصعد سريعاً كشرارة، ثم تخبو كما اشتعلت. نعتقد للحظة أن النجاح يشبه هذا اللمعان، وأن الضوء وحده يكفي ليُسمّى إنجازاً. لكن خلف كل شاشة حكاية لا تُرى؛ تعب يسهر ليلاً، محاولة تنهض بعد سقوط، قلب يتردد ثم يمضي. النجاح لا يولد مع الوميض، بل مع خطوة تليها أخرى… بصبرٍ لا تصوّره الكاميرات.

وفي العمق النفسي، يشير علم النفس إلى أن النجاح تجربة داخلية تتشكل من الدافعية الذاتية، والقدرة على التعلم والاستمرار. ليس حدثاً مفاجئاً، بل تراكم صغير يتكرر. يكفي أن نكون اليوم أفضل قليلاً مما كنا عليه أمس. لذلك، فالناجح لا ينتظر تصفيقاً ليشعر بقيمته، يكفيه إحساسه أنه يتقدم في الطريق الصحيح ولو ببطء. ومن يتأمل سير الناجحين سيرى أنهم مرّوا بلحظات شك، بأبواب مغلقة، وبمحاولات لم تنتبه لها العيون. لكنهم أكملوا… لأن دوافعهم كانت من الداخل لا من الخارج.

ومع طول الطريق، تتشكل سيكولوجيا مختلفة. فالناجح لا يعرف الراحة الساكنة؛ يرتاح ليعود، لا ليغادر الطريق. يرى الفشل درساً، لا نهاية. يتساءل.. كيف أتطوّر؟ بدل.. لماذا لم أظهر بعد؟ وهنا تنمو النفس من الداخل، بعيداً عن مقارنات الخارج، كجذر يشتد كلما غاص أعمق.

أما الشهرة، فهي حضور خارجي. ترتبط في علم النفس بحاجات التقدير الاجتماعي والانتباه الجماهيري. قد ترفع شخصاً خلال يوم واحد، لكن صوتها متقلب، يقوى مع التفاعل ويخفت حين يهدأ الجمهور. قد يبدو الشخص مشهوراً جدًا لكنه من الداخل قلق، يخشى أن يخفت عنه الضوء. لأن جذره معلق في الخارج. بينما جذور الناجح تنمو نحو الداخل أولاً، فيشعر بالثبات حتى وإن لم يُسلّط الضوء عليه.

وقد يتصافح النجاح مع الشهرة حين يبدأ الإنسان من العمل لا من الصورة، من العمق لا من السطح. الطبيب الذي التزم بعلمه حتى صار مرجعاً، والكاتب الذي كتب من روحه فحملت كلماته أثراً، والمعالج الذي حضر مع الناس حتى أحبّوه… هذه وجوه نعرفها ونراها. لكن النجاح لا يعيش في هذه المجالات وحدها. ربّة منزل تصنع لطفلها أماناً.. نجاح. شاب يدير مشروعاً صغيراً ويكبر ببطء.. نجاح. معلّم يشعل فكرة في عقل طالب واحد.. نجاح. حرفي يصقل صنعته عاماً بعد عام، وفنان يحوّل شعوراً إلى لوحة، ومبرمج يسهر ليكتب سطراً أفضل من الأمس… هذا أيضاً نجاح. النجاح يتعدد مثل البشر،  ليس قالباً واحدًا، ولا مهنة بعينها. النجاح حالٌ لا حالة.

وهناك من ينجح دون أن يشعر أنه ناجح. يمشي طويلاً فيرى الطريق أمامه، ولا يرى ما تجاوزه خلفه. يسمّي نفسه "مكافحاً فقط" لأن النجاح في ذهنه صورة بعيدة أعلى مما يعيشه الآن. في علم النفس، يُسمى هذا بانحياز التقليل من الذات؛ نرى ما ينقص ولا نعترف بما تحقق. وهو كمن يصعد الجبل وينظر إلى قمته فقط… ولا يسمع وقع خطواته وهي ترتفع. مثل هؤلاء لا يحتاجون ضوءاً، بل التفاتة صغيرة للقلب ليقول: "أنا لم أصل بعد، لكنني أمضي". والمضيُّ نفسه نجاح لا يدركه إلا من تعب.

وربما لا نحتاج الكثير لنقترب من النجاح، أحياناً يكفي أن نُصغي لتعبنا برفق، أن نلتقط من الطريق خطوة جميلة ونجعلها تذكاراً داخلنا. أن نبتسم لمحاولة صغيرة ونسميها بداية، لا تقصيراً. أن نقارن أنفسنا بأنفسنا، لا بالآخرين. فالأحلام الكبيرة لا تحتاج قفزات عالية، بل خطوات يومية خفيفة لا يراها أحد سوانا.

يكفي أن نهمس لذواتنا.. "أنا لم أصل بعد، لكني أتقدم." فالرحلة ليست لمن يركض أسرع، بل لمن يواصل، ولو بخطوة واحدة كل يوم. وما ينمو في القلب بصدق، لابد أن يزهر يوماً… حتى لو تأخر الضوء.

لا تتعجل الثمار، فهي تأتي حين تكتمل جذورها. لا تخف إن لم يعرفك العالم الآن، يكفي أنك تنمو. فالنجاح معنى يُسكن القلب ويثبته، والشهرة صورة تلتقطها العيون. وما سكن القلوب… أبقى مما لمع أمام الناس.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org