حين يكتبنا الأثر لا الكلمات

تم النشر في

هناك سيرةٌ لا تُكتب، لكنها تُرى. لا تحتاج إلى ورقٍ ولا إلى تنسيقٍ أنيق في سطورٍ محددة، لأنها تُكتب بطريقة مختلفة… تتشكّل من ملامحنا حين نتحدث، ومن ردودنا التلقائية، ومن الطريقة التي ننهض بها بعد كل سقوط. كل إنسانٍ يملك "سيرة ذاتية خفية" لا يعرف أنه يكتبها كل يوم، بخياراته، وبتسامحه، وبطريقة نطقه للوداع أو للسلام. ليست سيرتنا الحقيقية تلك التي نرفقها في طلب وظيفة أو تعريفٍ رسمي، بل تلك التي تبقى في ذاكرة من التقيناهم يوماً، حين يذكروننا بخيرٍ أو بوجعٍ أو بابتسامةٍ لم يعرفوا سببها.

وربما لهذا السبب يهتم علم النفس بكيفية إدراك الإنسان لذاته، لا كما يراه الآخرون فقط، بل كما يراه هو في أعماقه. فالإنسان يعيش بين صورتين: صورةٍ يصنعها عن نفسه، وأخرى تتكوّن عنه في أذهان من حوله. الأولى نتحكم في تفاصيلها، نختار ما نُظهر منها ونُخفي ما لا نريد، أما الثانية فتتكوّن دون إذنٍ منا، من طريقة تعاملنا، من ردودنا العفوية، ومن حضورنا الصادق أو الغائب في حياة الآخرين.

وحين تتسع المسافة بين هاتين الصورتين، يبدأ الصراع الداخلي بين من نكون فعلاً ومن نحاول أن نبدو عليه. لهذا، فالسيرة الذاتية الحقيقية ليست تلك التي تُكتب بالحبر، بل تلك التي تُرسم بسلوكنا في لحظات الصدق، حين لا نحسب حساب الصورة ولا نرتدي الأقنعة.

وفي تفاصيل حياتنا اليومية، نحرص على تحسين سيرتنا الأولى؛ نضيف إنجازاً هنا، ونحذف إخفاقاً هناك، كأننا نحاول إقناع العالم بأننا نسير على طريقٍ مستقيمٍ لا عثرات فيه. لكن السيرة الثانية تُكتب دون أن نشعر، في لحظات الغضب، وفي الطريقة التي نعتذر بها، وفي قدرتنا على الإصغاء أو التسامح أو التجاوز.

هي التي تُخبر من نكون فعلاً، وتبقى في ذاكرة الناس أكثر من أي منصبٍ أو لقبٍ أو سطرٍ جميلٍ في سيرتنا الرسمية. كم من أشخاص تركوا فينا أثراً عميقاً دون أن يدوّنوا كلمة، وكم من آخرين امتلأت سيرتهم بالمديح لكن حضورهم الإنساني تلاشى سريعاً من الذاكرة. وهكذا نفهم أن أثرنا الحقيقي لا يُقاس بما نكتبه عن أنفسنا، بل بما يكتبه الناس فينا دون أن نطلب ذلك.

وقد أدرك الأدباء هذه الحقيقة منذ زمن، فكتب مصطفى المنفلوطي سيرته الشعورية في "العبرات" و"النظرات"، حين جعل الحزن والإنسانية لغةً تُعرّفه أكثر من أي سيرةٍ رسمية. أما نجيب محفوظ فدوّن ملامح حياته في وجوه أبطاله، وكل شخصية كانت امتداداً لمرحلةٍ من وعيه. وفي الأدب السعودي، عبّر غازي القصيبي في "حياة في الإدارة" عن ذاته بصدقٍ وتجربةٍ ملهمة، وجعل من سيرته نموذجاً إنسانياً للكدّ والمعرفة. كما كتب عبدالله الحيدري عن تطور السيرة الذاتية في الأدب السعودي، وكيف تحوّلت من سردٍ للوقائع إلى حكايةٍ تُضيء رحلة الإنسان مع نفسه ومع مجتمعه. هؤلاء الكتّاب لم يكتبوا سيرتهم ليُعرّفوا بناسهم، بل ليكشفوا كيف تتكوّن روح الإنسان من تفاصيله الصغيرة، وكيف يصنع أثره حتى بعد رحيله.

وفي نهاية المطاف، لا أحد يملك سيرةً خاليةً من التشويش أو البياض الكامل. فصلٌ مؤلم، أو سطرٌ ندمت عليه، أو صفحةٌ وددت لو تُطوى… كلها أجزاء من حكايتنا، تعلّمنا وتعيد صياغتنا كل مرة. ما يجعلها جديرة بالاحترام هو قدرتنا على التعلّم من النقص، وعلى مواجهة الحقيقة دون تزييف.

وحين نغادر مكاناً أو حياة أحدهم، تبقى سيرتنا معهم على شكل أثرٍ صغير: نصيحةٌ صادقة، أو كلمةٌ مطمئنة، أو حضورٌ إنساني لا يُنسى. وربما نُنسى لاحقاً، لكن تبقى فيهم طريقةٌ تشبهنا، يكرّرونها دون وعيٍ لأنهم تعلموها منا.

وهكذا، حين ينتهي كل شيء، لا يبقى سوى الأثر… في النهاية، لا يكتبنا الحبر بل الأثر، ولا تخلّدنا الألقاب بل الدفء الذي تركناه في القلوب.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org