"هاتوا المرسمة والكشكول"*.. ربما تبدو كجملة اعتيادية لك، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لهم؛ فقد كان هذا النداء يُخفي تفاصيل كثيرة لديهم، كانت كفيلة بزرع الخوف من التعلُّم والدراسة..
تفاصيل الحكاية، كما حكتها لي صديقة، أن والدها -رحمه الله- كان يساهم مشكورًا في تدريسها هي وإخوانها، وعندما يحين موعد الدرس يصيح بهم "هاتوا المرسمة والكشكول"
وما إن تصل تلك الجملة لمسامعهم حتى يدبَّ الوجل في قلوبهم؛ لأنهم كانوا يعرفون ما هو السيناريو المعتاد الذي يلحق تلك الجملة الروتينية المرعبة بالنسبة لهم!
كان والدها -رحمه الله- حريصًا أكثر من اللازم؛ فشدته التي كان يراها في صالحهم وقت الدرس، واهتمامه الذي كان يأخذ مسارًا خاطئًا، انعكسا سلبًا على حبهم للتعلم؛ فكثيرًا ما كانت صاحبتي تردد كرهها للدراسة، ورغبتها في ترك المدرسة لو لم يمانع أهلها ذلك.. واستمر شعورها حتى مرحلتَيْ الثانوية والجامعية، بل حتى يومنا هذا..
السؤال الذي أطرحه هنا:
كم نهجًا والديًّا شبيهًا بهذا نراه في بيوتنا؟
وهل الاهتمام المبالغ والحرص الشديد الذي يقود للقسوة والصرامة الزائدة، أو الملاحقة والتدقيق، هي ما ستدفع أبناءنا نحو النجاح والتفوق؟
وهل العلامات المرتفعة هي ضمان للنجاح في شتى شؤون الحياة؟!
يجتهد الكثير من الأهالي في التدريس والتحفيظ والتسميع، وربما يندفع البعض ليقوم ببعض مهام أبنائه عنهم، فيجمعون أوراق العمل، ويخططون الكتب، ولو سمحت الفرصة ربما لاختبروا عنهم!
وتتهافت الكثير من الأمهات في التحقيق مع ابنها عن الواجبات، وإمضاء ساعات في التدريس والشرح والتوضيح.
أما فترة الاختبارات فيبدو الاستنفار والقلق على الأهل قبل أولادهم، فيصورون لأبنائهم أن تلك الاختبارات نفق مظلم، ورعب محتم!
إذا كانت هذه مهام الأم أو الأب فماذا بقي للمعلم في المدرسة؟
وإذا كان الوالدان يحشران نفسَيْهما في مهام أبنائهما فكيف سيتسنى لهم تعلُّم المسؤولية والمحاولة، والاعتماد على النفس، والعزيمة والإصرار؟ ومعانٍ أخرى كثيرة، لا تتوافر إلا بين طيات المحن والمواقف الصعبة، أو حتى المهام الروتينية الاعتيادية.
أن يعتمد طفل في السابعة على نفسه ليس بالأمر المستحيل، ولكنَّ تدخُّل بعض الأمهات المفرط هو ما سيجعله مستحيلاً..
من المهم أن يعي الوالدان أن مهمتهما مختلفة كليًّا عن مهنة المعلم في المدرسة، ودورهما يجب أن يكون موازيًا مع دور المعلم، ولا يتقاطع معه.
دور الأهل هو تهيئة النظام المشجع على المذاكرة، ويشمل توجيه الأبناء لطرق تنظيم الوقت، ومساعدتهم في ترتيب مكان الدراسة، وتذكيرهم بوقت الاستذكار، والمرور عليهم للتشجيع، وتأكيد قدراتهم، و"الطبطبة" إذا استصعب عليهم أمر ما.. وهذا ما يُسمى الدعم وقت الاحتياج. وكذلك تزويدهم ببعض الأذكار والأدعية، ثم الخروج والعودة بفنجان شاي مع بعض المفرحات من مكسرات وغيرها؛ لإقرار متعة التعلُّم في نفوسهم، وإذكاء شعلة الاهتمام؛ فتكبر وهي مؤمنة بأن العلم نورٌ، وليس مصدر قلق وقيود.
إن اعتماد الطفل على نفسه، وما يصاحب ذلك من مهارات وعمليات تفكير ومحاولات وصبر وفشل وألم، هو ما سيصنع منه -بعد إذن الله- شخصية صلبة قوية متماسكة في وجه مسؤوليات الحياة وظروفها..
غالبًا ما يدفع الأهالي لذلك الاهتمام الخانق رغبتهم -بلا شك- في تفوُّق أبنائهم ونجاحهم.. ولا أخالفهم في ذلك، ولكن لنُوسِّع معنى النجاح، ولنُعمِّق النظرة للتفوق؛ لتشمل كل نواحي الحياة، وعلى رأسها قوة الشخصية، والمهارات والقدرات والهوايات..
ــــــــــــــ
*المرسمة: قلم الرصاص.
* الكشكول: الدفتر.