حكمة ترك بعض الأشياء تمرّ
لا أحد ينجو من ازدحام الحياة دون أن يتعلّم، ببطء يشبه نضج الوعي، كيف يختار ما يستحق أن يستقر داخله. فالإنسان لا ينهكه الحدث الكبير وحده، بل تلك التفاصيل الصغيرة التي تتخفى في يومه: كلمة تمرّ وكأنها لا تعنيه لكنها تترك أثرًا، نظرة عابرة تُربك لحظة هدوء، أو موقف لا قيمة له لكنه يظل يطرق باب الذاكرة بلا دعوة. ومع تكرار التجارب، يبدأ القلب يفهم أن ليس كل ما يحدث حوله خُلق ليحمله، وأن هناك أمورًا تنجو حين نسمح لها بالعبور… دون توقف، دون تحليل، دون التزام عاطفي لا لزوم له.
وحين نمعن النظر في هذا السلوك، نكتشف أنه ليس مزاجًا طارئًا ولا خطوة دفاعية بحتة، بل انعكاس لآلية أعمق تعمل داخل الدماغ تُعرف في علم النفس بـ"الانتباه الانتقائي"، تلك القدرة الفطرية على غربلة ما يصل إلينا من أصوات وصور ومعانٍ، ومنح الأولوية لما يستحق البقاء. فالدماغ محاط يوميًا بفيض هائل من المثيرات، ولو حاول التعامل معها جميعًا بالدرجة نفسها لانطفأ من الإرهاق. لذلك يعالج ما يراه مفيدًا، ويهمل ما لا يخدمه، ويحمي سلامه الداخلي بقرارات صامتة لا نشعر بها. هذا الفرز التلقائي ليس رفاهية بيولوجية، بل ضرورة بقاء.
ومع مرور الوقت، نبدأ نحن أيضًا بتطبيق هذا الفرز على مستوى الحياة ذاتها. نمارسه حين نصمت بدلًا من الدخول في نقاش نعرف نهايته، وحين نمرّ بجانب كلمة جارحة دون أن نسمح لها بالاستقرار، وحين نبتعد خطوة عن موقف يستهلك منا أكثر مما يستحق. نمارسه حين ندرك أن بعض العلاقات يحفظها البعد أكثر مما يحفظها القرب، وأن بعض المواقف تُعالج بالصمت لا بالجدال، وأن بعض التفاصيل تتبخر عندما لا نمنحها وزنًا أكبر من حجمها.
لكن الوصول إلى هذه المرحلة ليس سهلًا كما يبدو. التجاهل الانتقائي ليس بساطة "التطنيش" التي يظنها البعض، ولا هو مهارة تُكتسب بين ليلة وضحاها. هو مرحلة تحتاج وعيًا متراكمًا، وتحتاج تجربة… لأن الإنسان لا يصل إليها إلا بعد أن يرهقه الرد في كل مرة، ويتعبه التفسير في كل اتجاه، ويؤذيه حمل ما لا يخصه. إنها النتيجة الطبيعية لتجارب جعلته يعيد ترتيب مساحاته الداخلية، ويعرف كم كل تفصيلة تستحق من طاقته، وما الذي عليه أن يتركه خلفه دون صراع.
ومع كل خطوة في هذا الطريق، يبدأ الإنسان يرى نفسه بوضوح أكبر. يدرك أنه لا يحتاج أن يفتح قلبه لكل شيء، ولا أن يغلقه أمام كل شيء، بل أن يجد المسافة التي تتيح له أن يبقى حاضرًا دون أن يُستنزف. يعرف أنه غير مُلزَم بالاستماع لكل رأي، ولا مُجبر على الردّ على كل كلمة، ولا مُطالب بخوض كل معركة تظهر في طريقه. ويعرف أيضًا أن قيمة الهدوء لا تأتي من خلوّ الحياة من الضجيج، بل من قدرته على ألا يسمح للضجيج أن يعبر إلى داخله.
وعندما يصغي الإنسان إلى داخله أكثر، يبدأ يشعر بأن التجاهل ليس انسحابًا ولا برودًا كما يراه البعض، بل حفظ للعافية النفسية. نوع من الرفق بالذات. إدارة للوعي. وترتيب للمشاعر والمساحات. وعند هذه النقطة، يصبح التجاهل الانتقائي اختيارًا واعيًا يحميه، ويعيد إليه خفته، ويجعله يرى الحياة بمنظار أوضح لا يضخّم ما لا قيمة له.
وهنا تتضح الرسالة التي يحتاج أن يتذكرها كل شخص: ليس المطلوب أن تتجاهل كل شيء، ولا أن تُحمّل نفسك فوق طاقتها في محاولة فهم كل التفاصيل. المطلوب أن تختار. أن تحمي سلامك دون صراع، وأن تمنح ذهنك ما يستحق أن يسكنه فقط. ذكّر نفسك دائمًا بأنك لست مُلزَمًا بالاستماع لكل رأي، ولست مُجبرًا على الرد على كل كلمة، ولست مُطالبًا بخوض كل معركة، ولست مسؤولًا عن كل ما يدور حولك. سلامك قرار، والانتباه انتقاء، والتجاهل أحيانًا شكل ناضج من أشكال الذكاء العاطفي. وما تسمح له بالعبور أو البقاء… هو ما سيصنع الفارق الحقيقي في جودة حياتك.
