مؤشرات الأداء والأبراج العاجية..!!
بلا شك، باتت "مؤشرات قياس الأداء" هاجسًا كبيرًا لدى الأجهزة الحكومية؛ وذلك بعد تبني رؤية 2030 ومتطلباتها المتعلقة بالحوكمة، وتجويد العمل، وتحسين المخرجات والأثر.. وأصبحت ضرورة ملحة، لا ترفًا، وأداة فاعلة في قياس مستوى تحقيق النتائج والأهداف، وتيسير صناعة القرار.
المؤسف والمقلق معًا أن بعض العاملين، سواء في القطاع العام أو الخاص، أساء استخدام هذه الأداة، وأفرغها من محتواها، إما جهلاً أو تلاعبًا؛ فبدلاً من أن تكون بوصلة تساعد في قياس مستوى الوصول للأهداف التشغيلية والاستراتيجية أصبحت في بعض أحوالها أداة وهمية، تكاد لا تغني ولا تسمن من جوع! وبدلاً من أن تكون مؤشرًا لقياس الأداء أصبحت هي الأداء نفسه.
وهنا أتذكر قانون جودهارت الذي يقول: "عندما يصبح المقياس هدفًا فإنه يتوقف عن كونه مقياسًا مناسبًا"!!
وثمة العديد من التحديات التي تؤدي إلى هذه النتيجة من الضعف والخلل، أو التلاعب بها، يأتي في مقدمتها أن البعض لا يحسن صناعة تلك المؤشرات، ولا يميز بين أنواعها الكمية والنوعية، التي منها ما يندرج تحت مؤشرات المدخلات والعمليات، أو مؤشرات المخرجات، عدا مؤشرات الأثر النهائي بأقسامه المتعددة؛ وبالتالي يجد نفسه قد بنى مؤشرات غير واقعية، أو غير قابلة للقياس، أو لا تقيس ما يفترض أن تقيسه!
ومن ذلك الخلل إهمال ربط مؤشرات الأداء باستراتيجية المنظمة، أو لجوء البعض لكثرة المؤشرات دون منهجية علمية ومستهدفات منطقية واضحة، والسعي لقياس كل ما يمكن قياسه لمجرد أنه يسهل قياسه!! هذا عوضًا عن "القص واللزق" من مبادرات ومشاريع أخرى دون أدنى مراعاة لاستراتيجيات وأهداف ونشاط المنظمة ومهامها.
ومن التحديات أن تمارس بعض المنشآت نوعًا من الترهيب تجاه استخدامها!! لتصبح أداة للحساب والعقاب بطريقة مفرطة غير متوازنة؛ ومن ثم تفقد جوهرها كأداة لمعرفة حجم الإنجاز ومكامن التحسين.. وهذا قد يؤدي لفبركة المؤشرات من قِبل بعض العاملين عليها؛ كي يحصلوا على الحوافز، أو ينجوا من العقاب.. وقد يضعون مؤشرات وهمية أو شكلية، ويتغافلون عن المؤشرات الأساسية، فقط لمجرد قناعتهم بأنها ستضعهم في النطاق الأخضر الذهبي، أو تقربهم إلى الحوافز زلفى!
وفي اعتقادي، إن أحد أهم التحديات يكمن في بعض مسؤولي القطاعات أنفسهم؛ إذ لا يكاد يخرج من برجه العاجي!! فلا هو ينزل من عليائه للميدان، ولا هو ينصت لصوت المجتمع، مستمتعًا بمشاهدة شاشات فاخرة متشبعة بمؤشرات شكلية خضراء، صنعها حاطب ليل، تُخفي خلفها واقعًا مؤلمًا من الخلل والضعف!
في المقابل، يمكن تحسين صناعة مؤشرات الأداء عبر حلول ميسرة، من أهمها النظر لها كمقياس لدرجة الحرارة (ثرمومتر)، وليس الحرارة ذاتها! والقناعة بأهميتها، ومعرفة الهدف منها، هذا عدا بناء القدرات، والتدريب الفعال على صناعتها، والتنوع بين المؤشرات الكمية والنوعية.. مع ضرورة التوازن في وضع الحوافز؛ كي لا تختل بوصلة أهدافها، وتنحرف عن مسارها الحقيقي.. وتعزيز ثقافة المساءلة الفعلية، وترسيخ المضامين الإيمانية المتعلقة بالإخلاص والأمانة في العمل والإتقان.
وغني عن القول ضرورة النزول لأرض الواقع، والإنصات للتغذية الراجعة وصوت المجتمع، وتفعيل الرقابة في الميدان.
حديثي هنا -قطعًا- لا ينتقص من دور العديد من القطاعات والمنشآت التي فهمت حقيقة قياس الأداء، واستثمرت في صناعة المؤشرات بطرق منهجية ومؤسسية؛ وبالتالي تمكنت من معرفة مكامن الخلل وأوجه التحسين والتطوير.
أخيرًا، أدعو القطاعات للاستثمار بشكل أفضل في مركز "أداء"؛ فهو يقوم بدور كبير في عملية بناء القدرات، وتيسير صناعة المؤشرات، ومتابعتها بطرق علمية مؤسسية.