خطاب التغيير حين يتجاوز حدّه
في هذا الزمن المليء بالأصوات، لم يعُد الاستماع فعلاً بسيطاً كما كان.
تفتح هاتفك بحثًا عن سكينة، فتعترضك مئات الرسائل التي لا تطلب منك شيئًا إلا أن "تكون أفضل"، "تتحرك"، "تستيقظ"، "تتجاوز"...
كأنك في سباق لا ينتهي، وكل من حولك يركض أسرع.
وفي غمرة هذا الصخب، يصعب أن تميّز بين من يُمسك بيدك بلطف، ومن يدفعك للأمام بقسوة،
بين من يقول لك "أنت بخير كما أنت"، ومن يُلمّح لك بأنك تأخرت، وبأن هناك شيئاً ناقصاً فيك دائماً.
يُفترض أن تخرج من هذا كله مستنيراً… لكنك تخرج مثقلاً.
تسأل نفسك دون أن تُجيب: لماذا أشعر بالذنب؟
لماذا لا أخرج من هذه الحلقات أكثر خفة؟
لماذا يُثقلك المحتوى الذي يُفترض به أن يرفعك؟
ولماذا أصبح بعض ما يُصنَّف "توعية"، عبئًا آخر على الكتف؟
تشير الدراسات النفسية إلى أن الرسائل التحفيزية المبالغ فيها، أو تلك التي تعتمد على "تضخيم الشعور بالذنب"، قد تؤدي إلى نتائج عكسية تمامًا، خصوصًا لدى الأشخاص الذين يعانون من القلق أو تدني تقدير الذات.
هذا النوع من المحتوى يُفعل في الدماغ مراكز النقد الذاتي، ويزيد من التوتر، بدلًا من تحفيز مناطق المرونة أو التقبل.
فالنفس لا تتغير بالقسوة، بل بالأمان.
وفي فضاءات الوعي وتطوير الذات، صارت بعض الرسائل تُقدَّم بنبرة تُشبه صوت القاضي أكثر من صوت المرافق؛
رسائل تبدأ بنية التوجيه، لكنها تصل أحياناً محمّلة بلغة تأنيب، وكأنها تُعلّق على باب المستمع لافتة تقول: "أنت السبب."
ومع تكرار هذا النمط، بدأ البعض يشعر بالخوف من الاستماع أصلاً.
ليس خوفاً من النصيحة نفسها، بل من الأثر الذي تتركه خلفها:
شعور بالنقص، بعدم الجدارة، بأن الآخرين يتقدمون وهو ما زال واقفاً.
أحياناً، يخرج أحدهم من بودكاست قصير وهو يحمل همًا لم يكن فيه قبل دقائق،
وتنتابه أفكار مربكة:
هل أنا وحدي الذي لم يتجاوز؟
لماذا لا أملك تلك الشجاعة التي يتحدثون عنها؟
هل فشلي صمتٌ مني؟ تقاعس؟ أم عيب في تكويني؟
وبين هذه الأسئلة، تبدأ النفس بالانسحاب، لا من الوعي… بل من الألم المغلّف بكلمات منمقة.
يُصبح سماع أي نص تحفيزي مجازفة، وكأنك تدخل اختباراً يُطلب فيه منك أن تكون نسخة محسّنة منك، وإلا… فأنت المشكلة.
والبعض لا يأتي إلى المحتوى التحفيزي فارغاً، بل مثقلاً بتجارب سابقة…
محاولات لم تنجح، أهداف لم تكتمل، نوايا خالصة انتهت بخيبة، أو مراحل تعافٍ لم تكتمل.
وهؤلاء – وهم كُثُر – يدخلون إلى النص أو المقطع بحذر، يبحثون عن عزاء لا ضغط، وعن فهم لا تأنيب.
لكن حين تُقابلهم لغة جامدة، ومقارنات غير عادلة، وأسئلة من نوع:
"لماذا لم تتغيّر بعد؟"
يعودون من حيث بدؤوا، لكن بثقة أقل، ونقد ذاتي أكبر.
إن من مرّ بتجربة فشل أو ألم، لا يحتاج إلى صوت يقول له: "أنت تأخرت."
بل إلى صوت يربت على كتفه ويقول:
"يكفي أنك تحاول، على طريقتك… وبالسرعة التي تناسبك."
وفي جانب آخر، يظهر محتوى يُقنعك بأن عليك أن تعتزل كل ما يؤذيك،
وتبتعد فوراً عن كل ما يُربكك، وتغلق الباب في وجه كل من لا "يناسبك نفسياً".
وقد تبدو هذه الرسائل براقة في ظاهرها، لكنها حين تُطرَح بصيغة قاطعة، تُنتج أثراً عكسياً على النفس.
فالحياة لا تمنحنا دائمًا خيار الانسحاب.
ليست كل العلاقات قابلة للقطع، ولا كل البيئات قابلة للتبديل،
ولا كل التحديات يمكن تجاوزها بمقولة "انسحب عندما تتأذى".
هناك أدوار، وهناك مسؤوليات، وهناك واقع يفرض علينا أحياناً أن نتعامل مع ما لا نحب، لا أن نهرب منه.
الوعي لا يعني الانفصال عن الواقع، بل القدرة على رؤيته بوضوح، دون أن نفقد أنفسنا فيه.
والنضج ليس في اجتناب كل ألم، بل في تعلّم كيف نكون بخير حتى في حضرته.
حين نستهلك محتوى بدافع الذنب، نشعر أننا نلهث خلف شيء ما،
نحاول اللحاق بركب غير مرئي،
وكأن علينا طوال الوقت إثبات شيء ما… حتى في أكثر لحظاتنا إنهاكاً.
لكن حين نستهلكه بدافع الحب، يصبح بوابة للاتساع،
ولطفًا نضيفه إلى أيامنا لا عبئاً،
ويصبح الوعي حينها امتداداً لعلاقتنا الطيبة مع أنفسنا، لا حرباً نخوضها ضدها.
لكل من شعر يوماً أن الحديث عن الوعي صار يُثقله بدل أن يُنيره…
ولكل من أرهقته النصائح الجارحة، والتنمية التي تُشير إلى النقص أكثر مما تزرع الرجاء…
اعلم أن ما تشعر به مفهوم، وله مكانه من الاحترام.
من حقك أن تختار ما تقرأ وتسمع،
ومن حقك أن تؤمن أن التغيير لا يُقاس بسرعة الاستجابة، بل بصدق الرحلة.
ليست كل النصائح مناسبة، ولا كل الأساليب تصلح لكل الحالات.
وبعض الوعي، لا يعنيك الآن… وهذا لا يجعلك أقل وعياً، بل أكثر إنصاتاً لنفسك.
ولمن يكتب أو يتحدث بقصد النفع والمساعدة،
نُقدّر نيتكم الطيبة، ونثق أن الكلمة قد تحمل أثراً كبيراً.
فقط، امنحوا كلماتكم هامشاً للإنسان كما هو…
تذكّروا أن البعض لا يزال في بداية الطريق،
يحتاج إلى صوت يتفهم تباطؤه، لا يطالبه بالإسراع،
ويحتاج إلى لغة تشبهه، لا تُحمّله ما لا يحتمل.
فما أكثر الذين يحتاجون إلى صوت يطمئنهم دون أن يُحمّلهم عبء التغيير،
صوت يقول: "أنت بخير، وإن لم تكتمل بعد…
خطواتك الصغيرة تُضيء الطريق، حتى وإن لم يرها أحد بعدك."