الصحة النفسية في زمن الطوارئ: طوق نجاة للروح

تم النشر في

في لحظة واحدة قد يتغيّر كل شيء. لا نحتاج إلى زلزال يهزّ الأرض تحت أقدامنا حتى نشعر بالانهيار، أحياناً تكفي كلمة، أو خبر مفاجئ، أو فقد لا نتوقعه، ليقلب يومنا رأساً على عقب. هذه اللحظات التي تُربك الروح وتُطفئ ملامح الطمأنينة هي "الكوارث" التي لا تُعرض في نشرات الأخبار، لكنها تترك أثراً عميقاً لا يُمحى في الداخل.

ومن هنا يكتسب اليوم العالمي للصحة النفسية أهميته هذا العام، وهو يرفع شعاره" الوصول إلى الخدمات النفسية في أوقات الكوارث والطوارئ". الحديث لا يقتصر على الحروب أو الكوارث الطبيعية، بل يشمل أيضاً تلك الكوارث الصامتة التي يعيشها الإنسان وحده.

ولو تأملنا تفاصيل حياتنا سنجد أمثلة لا تنتهي. شخص يفقد عمله فجأة، وآخر يودّع قريبًا بلا وداع، وامرأة تجد نفسها وحيدة أمام مسؤولياتها بعد انفصال مؤلم. طفل يفقد إحساسه بالأمان حين يشهد شجاراً قاسياً بين والديه، ومراهق يتعرّض لتنمّر يومي في المدرسة دون أن يجد من ينقذه. مريض يرهقه الألم المزمن، أو ناجٍ من حادث سير يطارده الخوف كلما اقترب من الطريق. كلها صور من كوارث صامتة قد لا تُرى بالعين، لكنها تُحدث في الداخل زلازل لا تقل قوة عن أي كارثة طبيعية.

وهنا يتجلّى البُعد العلمي والإنساني معاً. فالدراسات تؤكد أن غياب التدخل النفسي المبكر يحوّل الأزمة إلى ندبة طويلة الأمد، بينما يكون الدعم النفسي السريع، عبر خط ساخن، أو جلسة عن بُعد، أو حتى كلمة طمأنة من مختص، بمثابة يد تُمدّ في لحظة الغرق. هذا الدعم لا يغيّر ما حدث، لكنه يغيّر ما سيبقى في الداخل بعد أن يهدأ الغبار.

وما يبعث على الأمل أننا لم نعد ننظر إلى الصحة النفسية كما في السابق، إذ تراجع ثقل الوصمة شيئاً فشيئاً، وأصبح الحديث عنها أكثر تقبّلاً ووعياً. وفي بلدنا، تولي الدولة اهتماماً بهذا الجانب ضمن رؤية المملكة 2030، حيث يُعد رفع جودة الحياة محوراً أساسياً يشمل الاهتمام بالصحة النفسية، وتطوير خدماتها، وتسهيل وصولها للجميع. ومع ذلك، يبقى التحدي قائماً في أن نضمن وصول هذه الخدمات بشكل متوازن وسريع لكل من يحتاجها، في كل وقت وظرف.

إلى كل من يمرّ بعاصفة داخلية أو كارثة صامتة: لست وحدك، حتى وإن خيّل إليك الصمت أن العالم لا يسمعك. طلبك للمساعدة ليس ضعفاً، بل هو أصدق أشكال القوة، لأنه يعني أنك اخترت أن تحمي نفسك من الغرق.

وإلى كل مجتمع: حين نوفّر خدمات نفسية قريبة وسهلة الوصول، فإننا لا ننقذ أفراداً فقط، بل نرسم طريقاً للتعافي الجماعي، نمنح الأجيال القادمة فرصة أن تكبر في بيئة أكثر وعياً ورعاية. فالكارثة قد تهدم بيتاً أو طريقاً، لكنها لا ينبغي أن تهدم إنساناً. وقد لا تعيش حرباً أو زلزالاً، لكنك بالتأكيد عرفت يوماً اهتزّ فيه عالمك من الداخل. تذكّر أن طلب الدعم النفسي حقك، وتقديمه لغيرك مسؤوليتنا جميعاً. فالاهتمام بالصحة النفسية في الأزمات ليس مجرد استجابة للحظة، بل هو استثمار في المستقبل. إنه إنقاذ للحاضر، وبناء لأمل الغد.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org