رابطة العالم الإسلامي تعيد تعريف الدور الديني عالميًا

تم النشر في

ليست الأوطان وحدها من تحمل رسائلها إلى العالم، بل الأفكار أيضا حين تخرج من ضمير واعٍ وتتحول إلى فعل مؤسسي منظم. وفي زمن تتسارع فيه الأصوات المتطرفة، وتتشوه فيه صورة الأديان بفعل ممارسات لا تمثل جوهرها، تبرز الحاجة الى خطاب يعيد المعنى قبل الشعارات، ويقدم العقل قبل الانفعال، ويجعل من الاعتدال طريقا ومن الوسيطة منهجا.

من هذا المعنى، تمضي رابطة العالم الإسلامي في دورها التاريخي المتجدد، ليس بوصفها مؤسسة دعوية تقليدية، بل باعتبارها جسرا عالميا يعيد تقديم الإسلام كما هو في جوهره، دينا يدعو للتعايش، ويحترم التنوع، ويؤمن بأن الاختلاف سنة لا صدام فيها. ويقود هذا المسار معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، الذي جعل من الحضور الدولي للرابطة خطابا عمليا، تحضره المواقف قبل الكلمات. وما يميز خطاب الرابطة أنه لا يتعامل مع العالم بمنطق الدفاع، بل بمنطق الثقة والوضوح والمسؤولية الإنسانية.

وجاءت زيارة معاليه إلى إندونيسيا لتؤكد هذا النهج، في بلد يشكل نموذجا إنسانيا للتعدد الثقافي والديني، وليحظى هذا الدور بإشادة مباشرة من الرئيس الإندونيسي الذي أثنى على جهود رابطة العالم الإسلامي في دعم الاعتدال وتعزيز التقارب بين المذاهب، وترسيخ خطاب إسلامي جامع يواجه الانقسام بالتلاقي، والتشدد بالحكمة. هذا الحضور لا يخاطب المسلم وحده، بل يطمئن المجتمعات غير المسلمة بأن الإسلام جزء من الحل الأخلاقي العالمي لا جزء من صراعاته.

وفي جامع الاستقلال بجاكرتا، ألقى معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى خطبة الجمعة التي جاءت امتدادا عمليا لنهج رابطة العالم الإسلامي، مؤكدا أن الإسلام دين وحدة وألفة، وأن الوسطية والاعتدال منهج أصيل لا يقبل الغلو ولا الإقصاء. وشدد على أن التنوع المذهبي ثراء علمي لا سببا للفرقة، داعيا الى توحيد الكلمة في القضايا الكبرى، ومواجهة خطاب الكراهية بالحكمة والحوار، ومشيدا بالنموذج الإندونيسي في التعايش والتعدد المتناغم بوصفه نموذجا عمليا يجسد قيم الإسلام السمحة ويعكس رسالته العالمية.

وفي السياق ذاته، لم تتوقف جهود الرابطة عند الخطاب، بل ترجمت إلى مبادرات إنسانية مباشرة، من بينها إقامة مسابقة البصيرة العالمية في حفظ القرآن الكريم للمكفوفين في إندونيسيا، تحت إشراف رابطة العالم الإسلامي. مسابقة حملت معنى عميقا بأن القرآن الكريم نور تهتدي به القلوب حتى لو غابت أنوار البصر، ورسالة تؤكد أن الإعاقة لا تلغي العطاء، وأن خدمة كتاب الله تفتح أبوابها للجميع، وتعكس بعدا إنسانيا يربط بين الاعتدال الديني والعدالة الاجتماعية، ويبرز الوجه الحضاري للرابطة كراعية لأهل القرآن حول العالم.

ولم يكن هذا الحراك منفصلا عن المسار الأوسع للرابطة، إذ يأتي انطلاق مؤتمر الوئام للحوار بين الأديان، الذي تنظمه رابطة العالم الإسلامي، ترجمة عملية لفلسفة تؤمن بأن السلام لا يفرض بالقوة، بل يبنى بالتفاهم وتبادل الرؤى. مؤتمر يناقش مفاهيم الوسيطة والاعتدال، ويسهم في تصحيح صورة الإسلام، ويهدف الى تعزيز التفاهم المتبادل وبناء الجسور وترسيخ الحوار كخيار حضاري لنشر السلام والتعايش العالمي.

ويجيء هذا الدور المتزن لرابطة العالم الإسلامي امتدادا لاهتمام قيادة المملكة الراسخ بخدمة الإسلام والمسلمين حول العالم، انطلاقا من مكانتها الروحية ومسؤوليتها التاريخية. فالدعم الذي تحظى به الرابطة يعكس وعيا قياديا بأن الرسالة الدينية في عصرنا لا تدار بردود الفعل، بل بالحكمة والعلم والعمل المؤسسي. اهتمام يتجلى في رعاية خطاب الاعتدال، وتعزيز التقارب، وبناء منصات الحوار، وتقديم الإسلام للعالم بوصفه دينا يحفظ توازن الإنسان ويصون كرامته، ويواجه التطرف بالفهم لا بالصدام.

ختام ما أقوله.. إن ما تقدمه رابطة العالم الإسلامي اليوم، بقيادة الشيخ محمد بن عبدالكريم العيسى، ليس خطابا ظرفيا ولا رد فعل عابرا، بل مشروع وعي ممتد يعيد وضع الإسلام في موقعه الطبيعي كقوة أخلاقية عالمية. من منابر الخطاب في جامع الاستقلال وغيرها من دول العالم، إلى مبادرات إنسانية تحتضن أهل القرآن الكريم دون تمييز، إلى مؤتمرات حوار تتقدم فيها المشتركات على الخلافات، تتشكل صورة إسلام لا يصطدم بالعالم بل يشاركه مسؤوليته الإنسانية. وفي زمن تشتد فيه الحاجة إلى صوت جامع وعقل راشد، تواصل الرابطة ترسيخ مسار تصنع فيه الوسطية سلاما، ويصبح فيه التعايش خيارا حضاريا لا رجعة عنه، وتظل الرسالة واضحة بأن السلام يبدأ من فهم الدين على حقيقته، ويكتمل حين يتحول هذا الفهم الى عمل مؤسسي يلامس الإنسان حيثما كان.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org