العين الذهبية تبحث عن عوالم جديدة!!
خلال فترة الثمانينيات من القرن العشرين عرض التلفزيون السعودي عبر القناة الثانية آنذاك، الأجزاء الأولى من سلسلة الخيال العلمي (دكتور هو) التي انطلقت عام 1963 بالأبيض والأسود، حيث تتحدث القصة عن مستكشفٍ يسافر عبر الزمن بوساطة مركبة على شكل صندوق تُسمّى "التارديس"، وهو قادمٌ من كوكبٍ يُسمّى غاليفري البعيد والرائع بأشجاره ذات الأوراق الفضية وسماء برتقالية قاتمة.
ثم عرضت حلقات "ستار ترك"؛ السلسلة الأصلية التي تتحدث عن المركبة الفضائية إنتربرايز، وهي تتجوّل بين عوالم لا تشبه أي شيء في نظامنا الشمسي، ومَن يستطيع أن ينسى (لوك سكاي ووكر) من سلسلة حرب النجوم الشهيرة، وهو يشاهد توأماً من الشموس على كوكب (تاتوين) وهو يغرب تحت الأفق.
إن جميع اللحظات المميزة من الخيال العلمي كلها تم افتراضها قبل معرفة وجود كوكب آخر خارج نظامنا الشمسي، لكن اليوم استحوذت الحقيقة العلمية على الخيال العلمي، حيث قام العلماء بفهرسة أكثر من خمسة آلاف كوكب معروف؛ بعضها لا يشبه أي شيء متخيل في هوليوود وتكاد تتحدّى المنطق.
لقد تم اكتشاف كواكب عملاقة تتكوّن من الغاز تدور بالقرب من نجومها لدرجة أنها تتبخر ببطء وكواكب صخرية متداخلة مع بعضها في رقصة باليه كونية متزامنة بشكل جميل، وكواكب لا تدور حول نجوم؛ بل تتجوّل في الأعماق المظلمة بين النجوم.
بوجود عديدٍ من الكواكب الغامضة خارج نظامنا الشمسي، يقوم العلماء الآن بتحويل تركيزهم من الاكتشاف إلى التوصيف وفهم ما تتكوّن منه تلك الكواكب وما الظروف التي قد تكون على أسطحها إذا كانت كواكب صخرية؟
يعد تلسكوب جيمس ويب الفضائي بمرآته الذهبية شديد الحساسية، ويعمل في ضوء الأشعة تحت الحمراء، حيث تبعث الكواكب معظم ضوئها، وبالفعل قام تلسكوب ويب بالتقاط بيانات حول ما يقرب من عشرين نظاماً كوكبياً مختلفاً محطماً الأرقام القياسية ومتحدياً النظريات في هذه العملية، لذلك دعونا نتعمق في بعض الأنظمة البارزة التي درسها تلسكوب ويب حتى الآن:
HIP 65426b
كوكبٌ عملاقٌ من الغاز يُوجد على مسافة 350 سنة ضوئية من الأرض في كوكبة قنطورس، ويدور حول نجم يافع كتلته تبلغ ضعف كتلة الشمس، يمكن روية ذلك النجم الذي يدور حوله الكوكب بوساطة المناظير فقط حيث يبلغ لمعانه (+7). اكتشف الكوكب نفسه عام 2017، وتبلغ كتلته نحو "6 – 8" كتلة كوكب المشتري، ويدور حول النجم على مسافة نحو 90 وحدة فلكية، أو ما يقرب من ثلاثة أضعاف المسافة التي تفصل كوكب نبتون من الشمس.
وكونه عملاقاً من الغاز، فإن الكوكب HIP 65426b ليس هدفاً مثيراً للاهتمام، حيث لا يعتقد أنه قد يحوي كائنات حية، خاصةً مع درجة حرارة الغلاف الجوي المقدرة بنحو 1300 درجة مئوية، ومع ذلك فإنه موضوع اختبار لمعرفة ما إذا كان بإمكان تلسكوب ويب تصوير كوكب خارج نظامنا الشمسي مباشرة؛ أي التقاط فوتونات الضوء المنبعث من الكوكب نفسه، وكما قد تتوقع، فإن تلسكوب ويب نجح في ذلك.
باستخدام كل من نيركام (كاميرا الأشعة تحت الحمراء القريبة) وميري (أداة الأشعة تحت الحمراء المتوسطة)، التقط تلسكوب ويب الكوكب HIP 65426b بكل تفاصيله وقدّم صور حقيقية لعالم آخر يدور حول نجم بعيد! لقد تمّ استخدام جهاز الكرونوغراف في هذه الصور لحجب ضوء النجم؛ ما يجعل رؤية الكوكب أسهل. تساعد المراقبة في ضوء الأشعة تحت الحمراء أيضاً، خاصةً عند الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء الأطول.
تصبح الكواكب أكثر سطوعاً عندما تكون النجوم خافتة؛ لأن النجوم تبعث معظم ضوئها عند الأطوال الموجية الضوئية أو فوق البنفسجية، من المثير للاهتمام أن هذه هي الصور الأولى لكواكب خارج المجموعة الشمسية بأطوال موجية أطول من 5 ميكرونات، يستحيل الحصول عليها باستخدام التلسكوبات الأرضية بسبب الغلاف الجوي للأرض.
WASP-39b
كوكبٌ عملاقٌ من الغاز غير صالح للحياة كتلته مشابهة لكتلة كوكب زحل، لكنه منتفخ إلى قطر أكبر بنحو 30% من كوكب المشتري. على عكس الكوكب HIP 65426b، يستغرق الكوكب WASP-39b ما يزيد قليلاً على 4 أيام حول نجمه الشبيه بالشمس، والموجود في كوكبة العذراء. كشفت الأرصاد الطيفية السابقة للكوكب WASP-39b، حيث يسطع ضوء النجوم عبر الغلاف الجوي للكوكب وينقسم إلى الأطوال الموجية المكوّنة له للبحث عن البصمات للجزيئات التي تمتص ضوء النجوم، عن وجود بخار الماء والصوديوم والبوتاسيوم، ومع ذلك، باستخدام تلسكوب ويب اكتشف علماء الفلك وجود ثاني أكسيد الكربون لأول مرة في الغلاف الجوي لكوكب خارج نظامنا الشمسي!
يمكن أن يساعدنا ثاني أكسيد الكربون في الكشف عن كمية المواد الصلبة والغازية التي شكّلت الكواكب الغازية العملاقة مما يسهم في معرفتنا بتكوين الكواكب.
إن تلسكوب ويب لم يكتفِ فقط بالتفوق على التلسكوبات الأخرى لكنه حلّ بالفعل محل دراسته الأصلية لـ WASP-39b. باستخدام بيانات من ثلاثة أجهزة (NIRISS وNIRCam وNIRSpec)، اكتشف علماء الفلك لأول مرة إشارات لوجود ثاني أكسيد الكبريت في الغلاف الجوي لكوكب خارج نظامنا الشمسي!
ينتج ثاني أكسيد الكبريت عن طريق تفاعلات كيميائية ناتجة عن فوتونات عالية الطاقة من النجم الذي يدور حوله الكوكب، وتضرب الغلاف الجوي المتضخم للكوكب. تصنع عملية مماثلة طبقة الأوزون الواقية للأرض، يسلط هذا الاكتشاف الضوء على أهمية ضوء النجوم في تشكيل الغلاف الجوي للكواكب، حتى لو كانت موجودة في ظروف مختلفة تماماً، وسيكون مهماً عند تقييم إمكانية الحياة في مكان آخر.
WASP-96b
كوكبٌ عملاقٌ غازي ساخن منتفخ مماثل لسابقَيه يبعد مسافة أكثر من 1100 سنة ضوئية في كوكبة العنقاء يدور حول نجم خافت يبلغ لمعانه نحو (+12)، التقط تلسكوب ويب طيفاً مفصلاً بشكلٍ غير عادي لهذا الكوكب، حيث اكتشفت بصمة بخار الماء، وللمرة الأولى دلائل على وجود ضباب وسحب.. لكن هذه ليست غيوماً مائية؛ إنها غيوم من أكاسيد المعادن والسيليكات!
مع ذلك، فإن العامل الرئيس لهذه الملاحظة هو المستوى الهائل من التفاصيل الحالية والتسجيلات لأدق الزيادات والنقصان في السطوع مع الطول الموجي مما يدل على قدرة تلسكوب ويب على تحليل الغلاف الجوي للكواكب الخارجية (خارج نظامنا الشمسي)، إضافة إلى أن الدقة الطيفية الممتازة لتلسكوب ويب تسبّب مشكلات لعلماء الفلك.
هل بيانات الكواكب الخارجية مثالية؟
ان التحليل الطيفي عالي الحساسية لتلسكوب جيمس ويب من حيث القدرة على التقاط تغييرات طفيفة في السطوع والدقة في قياس تغيرات السطوع بأطوال موجية أدق وأدق تمثل تحدياً لعلماء الفلك، فعلى الرغم من أن اكتشاف الجزيئات ومقارنة نسب الوفرة لا يمثلان مشكلة، إلا أن تحديد الكمية الموجودة ليس دقيقاً بصورة كافية، وذلك يرجع إلى أن النماذج التشخيصية لم يتم تنقيحها بشكل كافٍ.
يقوم علماء الفلك بفك تشفير إشارات الضوء الطيفي عن طريق تركيب نماذج حاسوبية عليها، مع بيانات لنماذج حاسوبية مأخوذة من تجارب معملية حول كيفية تفاعل الجزيئات المختلفة مع الضوء تحت درجات حرارة وضغوط متفاوتة، ومع ذلك فإن النماذج الحاسوبية الحالية ليست مفصّلة، مثل أرصاد تلسكوب ويب، فهي لا تجاري الفروق الدقيقة التي يكتشفها التلسكوب وهذه مشكلة.
أظهرت دراسة حديثة نُشرت في مجلة "نيتشر" نموذجاً حاسوبياً يقول إن الغلاف الجوي هو 30 درجة مئوية، وهو يناسب بيانات التحليل الطيفي لتلسكوب ويب، وكذلك نموذج الغلاف الجوي 300 درجة مئوية، فرق مهم للغاية، خاصة عند النظر في الظروف الصالحة لوجود الحياة، وبالمثل، فإن النماذج التي تقول إن الغاز يتكوّن من 5% أو 25% من غلاف جوي لكوكب معين تتناسب أيضاً مع البيانات بشكل جيد.
الخلاصة: بالنسبة لبيانات التحليل الطيفي للكواكب الخارجية بوساطة تلسكوب ويب، فإن تأكيد وجود جزيئات مختلفة ليس مشكلة، إلى أن تلحق النماذج الحاسوبية للكواكب الخارجية للتطور الحالي، حيث سيكون تحديد خصائص الغلاف الجوي بدقة من حيث الضغوط ودرجات الحرارة والنسب الجزيئية أمراً صعباً، لذلك يجب تحرّي الدقة مع أي نتائج مبكّرة في الوقت الحالي.