بين الروايات والسير الذاتية: كيف تؤثر القراءة على صحتنا النفسية؟
كتب الكثير عن الفوائد العلاجية للقراءة، حيث تتيح لنا فرصة للهروب من ضغوط الحياة اليومية، وتحررنا من قيود الواقع والروتين المرهق. فالتركيز العميق الذي تتطلبه القراءة يخلق شعورًا بالهدوء في عالم يزداد اضطرابًا، مما يجعلها وسيلة فعالة لاكتشاف العزلة كملاذٍ مريح وسط الفوضى.
تناول عالم النفس فيكتور نيل هذه الفكرة في كتابه “ضائع في كتاب: سيكولوجية القراءة للمتعة” الصادر عام 1988، حيث وصف القراءة بأنها تجربة مفعمة بالحياة والألوان، قادرة على إلهام القارئ ومنحه القوة والحكمة. لم يقتصر فيكتور على التأملات الشخصية، بل دعم أطروحته بإحصائيات وأبحاث سريرية، مشيرًا إلى أن القراءة ليست مجرد متعة، بل حاجة إنسانية أساسية مرتبطة بإنتاج السرد واستهلاكه.
لكن معظم هذه الدراسات ركّزت على الروايات، التي تُعد ملاذًا مثاليًا من الضغوط اليومية، إذ تتيح للقراء السفر ذهنيًا إلى أزمنة وأماكن مختلفة، مما يساعدهم على رؤية العالم من منظور جديد. في المقابل، لم تحظَ الكتب غير الروائية، وخاصة السير الذاتية، بالاهتمام نفسه فيما يتعلق بتأثيرها العلاجي، رغم أنها تقدم دروسًا قيّمة من تجارب الآخرين، مما يساعد القارئ على فهم تحدياته الشخصية بشكل أوسع.
غالبًا ما نعتقد أن معاناتنا فريدة، لكن قراءة السير الذاتية تكشف أن العديد من الأشخاص، حتى المشاهير وأصحاب الإنجازات العظيمة، واجهوا تحديات قاسية وتجاوزوها. فمن خلال الاطلاع على تجاربهم، ندرك إمكانية التغلب على العقبات، سواء كانت شخصية أو مهنية.
كتّاب وكاتبات حوّلوا الألم إلى إبداع
على الصعيد العربي، هناك العديد من الشخصيات التي واجهت تحديات كبيرة وتمكنت من التغلب عليها، مما يجعل قراءة سيرهم الذاتية مصدرًا غنيًا للإلهام.
على سبيل المثال، لم تكن رحلة الأديب المصري نجيب محفوظ نحو العالمية سهلة. واجه الكثير من النقد والرقابة على أعماله، بل وتعرض لمحاولة اغتيال عام 1995 بسبب أفكاره الجريئة. ورغم ذلك، لم يتوقف عن الكتابة، بل استمر في تقديم إبداعاته حتى أصبح أول كاتب عربي يحصل على جائزة نوبل في الأدب.
أما الكاتبة والصحفية السورية غادة السمان، فقد تحدّت الأعراف الاجتماعية وتمردت على القيود المفروضة على المرأة في مجتمعها، حيث كتبت بصراحة عن قضايا المرأة. ورغم الانتقادات اللاذعة التي تعرضت لها، فإن كتبها لا تزال تُقرأ حتى اليوم، مُلهِمة أجيالًا من الكاتبات العربيات.
أمَّا على الصعيد العالمي، لنأخذ مثالًا أغاثا كريستي، التي لم تقتصر مشكلاتها على كتابة الروايات البوليسية، بل عانت من صراعات شخصية ومادية، بما في ذلك أزمة زواجها الأول وضغوط الشهرة. في عام 1926، اختفت لمدة أسبوع بعد أن تركها زوجها من أجل امرأة أصغر سنًا. ومع ذلك، تجاوزت محنتها وأصبحت واحدة من أكثر الكاتبات شهرة في العالم.
كذلك، عانى الكاتب البريطاني إيفلين ووه من صعوبات مالية في بداية حياته، بالإضافة إلى شعوره العميق بالكراهية تجاه العالم الحديث. رغم الإفراط في شرب الكحول للهروب من مشاعره المتضاربة، ترك إرثًا أدبيًا جعله من أبرز الكتاب البريطانيين في القرن العشرين.
أما الكوميدي الشهير ميل بروكس، فتروي سيرته الذاتية “كل شيء عني” الصادرة عام 2021 عن معاناته مع القلق الشديد خلال فترة عمله ككاتب كوميدي شاب. كان يعاني من ضغوط العمل التلفزيوني المباشر، لدرجة أنه كان يتقيأ بين العروض، واستمر في العلاج النفسي لثلاث سنوات. رغم ذلك، تمكن من إنتاج بعض أكثر الأفلام الكوميدية نجاحًا في التاريخ.
القراءة: نافذة على الأمل والتجربة الإنسانية
تمنحنا قراءة السير الذاتية والسير الشخصية فرصة نادرة لرؤية الحياة من منظور مختلف، حيث نكتشف أن التحديات والصعوبات جزء من التجربة الإنسانية وليست عائقًا أمام النجاح. إنها تتيح لنا التعلم من تجارب الآخرين، واستلهام القوة من قصصهم، ورؤية إمكانيات جديدة لم نكن ندركها من قبل.
في النهاية، قد لا تكون القراءة حلًا مباشرًا لكل المشكلات، لكنها بلا شك رفيق يمنحنا السلوى والإلهام، ويفتح لنا أبوابًا جديدة للتفكير والتطور.