موائد بلا أفراد
لم تكن المائدة يوما مجرد مساحة للطعام، بل كانت مرآة للعائلة، وصورة مكثفة للحضور والود والانتماء. حولها كانت النفوس تلتقي قبل الأجساد، وتتشابك التفاصيل الصغيرة في أحاديث عفوية لا تحتاج إلى موعد. كان الجلوس على المائدة فعل مشاركة، لا استهلاك، وكانت الوجبة حدثا يوميا يحمل معنى يتجاوز الشبع إلى الطمأنينة.
لكن هذا المشهد الهادئ بدأ يتلاشى شيئا فشيئا. لم تختف الموائد، لكنها فقدت أحد أهم عناصرها: الأفراد. اليوم، تُعد وجبة الغداء أو العشاء في كثير من البيوت، لكن من يتناولها ليس بالضرورة من أهل المنزل. أفراد العائلة حاضرون جسدا في البيت، غائبون فعليا عن المائدة، كلٌ يطلب وجبته من مطعم مختلف، وفي توقيت مختلف، وكأن الطعام لم يعد سببا للاجتماع بل عنوانا للتفرّق.
قديما، كان الخروج لتناول الطعام في المطاعم مناسبة استثنائية، يوما واحدا في الأسبوع لا يتكرر، غالبا يوم الجمعة. ذلك اليوم الذي تنتظره العائلة كاملة، يخرج فيه الجميع معا، يختارون مطعما واحدا، ويجلسون على طاولة واحدة. لم يكن الأمر ترفا يوميا، بل طقسا اجتماعيا له رمزيته، يحمل في طياته معنى المكافأة بعد أسبوع طويل، ومعنى الاجتماع الذي لا يتكرر في باقي الأيام.
اليوم تغيّر المشهد كليا. المطاعم لم تعد خيارا أسبوعيا، بل حلا يوميا. ومع هذا التحول، شهدت مدينة الرياض توسعا هائلا في قطاع المطاعم، إذ تضم العاصمة وحدها ما يقارب 18 ألف مطعم ومقهى، ضمن أكثر من 70 ألف منشأة على مستوى المملكة. هذا الرقم لا يعكس فقط تنوع الخيارات، بل يعكس تحولا في نمط الحياة، وفي العلاقة بين العائلة والطعام.
الأمر لا يتوقف عند البعد الاجتماعي فقط، بل يمتد إلى البعد الاقتصادي. فالاعتماد اليومي على طلب الوجبات الجاهزة لم يعد مجرد كلفة بسيطة، بل أصبح عبئا ماليا متراكما. حين تُحسب الطلبات اليومية لعائلة كاملة، مع رسوم التوصيل والخيارات المتكررة، تتحول هذه المصاريف إلى ما يشبه “تكلفة طائرة” شهرية، تُستنزف دون أن يشعر بها أفراد العائلة، لأنها تتوزع على طلبات صغيرة لكنها مستمرة.
المفارقة أن هذا الإنفاق لا يقابله بالضرورة رضا أو جودة حياة أعلى. فالوجبة قد تصل ساخنة، لكنها تصل إلى مائدة باردة، بلا حوار، بلا اجتماع، بلا لحظة مشتركة. المطاعم وفرت الراحة، لكنها سحبت بهدوء واحدة من أجمل عادات العائلة: الجلوس معا.
ليست المشكلة في المطاعم ولا في تطور الخيارات، بل في غياب التوازن. فالمائدة التي تخلو من الأفراد تفقد معناها، مهما تنوعت أطباقها. وبين سرعة الحياة وضغوطها، يبقى اجتماع العائلة حول مائدة واحدة فعلا بسيطا، لكنه كفيل بإعادة شيء من الدفء الذي لا توفره أي وجبة جاهزة، مهما بلغ ثمنها.
وهنا تتجلى المفارقة بوضوح أكبر: كثرة الطعام لا تعني كثرة اللقاء، وسهولة الطلب لا تعني سهولة الحياة. فحتى في أكثر الفصول نشاطا، يبقى الاجتماع حول المائدة فعلا إنسانيا لا يعوّضه تطبيق، ولا تختصره قائمة مطعم، ولا يبرد أثره مهما اشتدت حرارة الصيف.
ولا يمكن تجاهل الأثر الصحي لهذا التحول على الأطفال، وهم الفئة الأكثر هشاشة أمام الاعتماد المتكرر على الوجبات الخارجية. فغياب الطعام المنزلي لا يعني فقط غياب الاجتماع الأسري، بل يفتح الباب أمام أنماط غذائية غير متوازنة، ترتفع فيها الدهون والسكريات والملح، وتغيب عنها القيمة الغذائية الحقيقية.
وفي عمق هذه التحولات، تبقى المائدة أكثر من مجرد وجبة، فهي مساحة تتكوّن فيها ذاكرة الأبناء. الطفل لا يتذكر نوع الطعام بقدر ما يتذكر من كان يجلس إلى جواره، ومن كان يصغي إليه، ومن كان يشاركه لحظته اليومية. تلك الذكريات الصغيرة، التي تُصنع حول المائدة، هي ما يشكّل إحساسه بالأمان والانتماء لاحقًا، وهي ما يبقى عالقًا في الذاكرة حتى بعد أن تتغير الأماكن والظروف.
ختام ما أقوله.. بين موائد الأمس التي كانت تجمع، وموائد اليوم التي تكتفي بالطعام دون حضور، تقف العائلة أمام سؤال بسيط لكنه عميق: ماذا نريد من المائدة؟ طعاما يشبع فقط، أم لحظة تلمّ الشمل وتعيد ترتيب العلاقات؟ فالمطاعم ستبقى، والخيارات ستتعدد، لكن قيمة الاجتماع لا تُطلب ولا تُوصل، بل تُصنع داخل البيت، حين يقرر الأفراد أن يكونوا حاضرين لا جسدا فقط، بل قلبا ووقتا ومشاركة.
ويبقى السؤال مفتوحًا دون وصاية أو توجيه مباشر: كم وجبة في الأسبوع قد تكون كافية لإعادة الحياة إلى المائدة؟ وكم اجتماعًا بسيطًا قد يصنع فرقًا أكبر من أي طلب جاهز؟ الإجابة لا تحتاج قرارًا كبيرًا، بل وعيًا صغيرًا يتكرر، حتى تعود الموائد عامرة بأفرادها، لا بأطباقها فقط.
الصحافي عبدالرحمن بن ناحي الإيداء
