الإساءة الوالدية.. هل أنت بريء منها؟

تم النشر في

ربما سمعت تلك العبارة "الإساءة الوالدية" في أحد البرامج الحوارية، أو تناهت إلى مسامعك في مكان ما، وتتمتم بينك وبين نفسك بالحمد لله على البراءة منها، ولكن الواقع يقول إن التهمة تتلبسك، والجريمة ثابتة، ولكنك لا تراها؛ وهنا الموضوع يكون أصعب! لذا أقترح أن تعيد النظر في مفهومك عن الإساءة، وتتأكد من ماهيتها قبل أن تجعل حكمك نهائيًّا.

فعندما تتمسك بأساليبك التقليدية في التربية، وتتصرف من واقع إحساسك ورأيك الذي يكون مشوبًا بالكثير من الأخطاء، وعندما تركز على جوانب رعاية محددة، وتهمل جوانب أخرى أهم وأعمق، فأنت تُعرِّض أطفالك لمخاطر الإساءة الوالدية التي تجر تبعات نفسية مستقبلية معقدة!

وقبل أن أكمل دعوني أوضح ما هي الإساءة؟ هي أي تصرف يتلقاه الطفل من أحد والديه أو مقدمي الرعاية، ولكنه يخزنه في ذاكرته كموقف سلبي مؤلم، حتى وإن كان في نظرهم صحيحًا، بل ربما يعتقدون أنهم يستخدمون أفضل الأساليب وأكثرها فاعلية، ولكن رؤية طفلهم لها، والآثار النفسية لها، عكس ما يعتقدون.

فبيت القصيد هو في جودة المشاعر التي يخزنها الطفل، والتفسيرات التي يترجم بها عقله تلك الأحداث.

إن التوجيهات التربوية الفظة المصحوبة بالانتقاد الجارح، والتقليل من شأن الطفل أو المراهق، تولد مشاعر سلبية لدى الطفل، ترسخ في داخله إحساسًا دفينًا بالخزي والعار.. فإذا كان ذلك خط التوجيه الأول لديك فسجِّل هنا أول إساءة والدية، "الإساءة اللفظية": وهي الأكثر انتشارًا والأكثر خطورة؛ وذلك لأن غالبية المربين يعتقدون بخطورة الضرب فيحجمون عنه، ولكنهم يصبون جام غضبهم ويفرغون صديد مشاكلهم وضغوطاتهم على هؤلاء الأبرياء بجُمل ساحقة في مواقف لا تستحق ذلك، ثم سرعان ما ينهشهم الندم، وقليل منهم مَن يعتذر أو يصلح ما أفسدته أنياب كلماته الجارحة، ولكن تأخذه العزة بالإثم، ويمضي متناسيًا ما حدث، ومُصغرًا حجم الموقف "ايه ما ضرنا بيكبرون وينسون، أقوى لهم".

كما تشمل الإساءة الأساليب الجسدية العنيفة، مثل الضرب المبرح، وغير المبرح المصحوب بلغة جسد غاضبة وحنق كبير. وكل تلك هي أساليب قد تقمع السلوكيات الخاطئة في وقتها، ولكنها تختزن في العقل كخبرات غير سارة، وصدمات نفسية يختزنها اللاوعي على شكل غضب مكبوت، يظهر في سياقات مفاجئة عند الكِبَر في مواقف بسيطة، لا تشبه حجم ذلك الغضب!

المواقف السابقة قد تكون مواقف عنف بيِّنة عند البعض، فيعتقدون أن الإساءة تنحصر هناك، ولكن الواقع أن مفهوم الإساءة أوسع من ذلك؛ فهي تتنوع بين إساءات لفظية وجسدية وجنسية وحتى عاطفية.

فالإهمال العاطفي إساءة بالغة أيضًا، عندما لا تفهم مشاعر طفلك، ولا تتعرف على نوبات غضبه وأسبابها، ولا تتعاطف مع آلامه ومخاوفه، وتتركه وحيدًا، تعصف به شتى ألوان المشاعر، بلا احتواء ولا دعم عاطفي لفترات طويلة، قد تمتد لسنوات طفولته كاملة!

وهذا قد يحصل عند الآباء المنشغلين بأساليب الرعاية ففط متناسين أو غافلين عما هو أعمق وأهم، ألا وهو الحميمية والقرب والدعم العاطفي للطفل والمراهق.

أو قد يظهر لدى المربين الجادين والعمليين لدرجة تطغى المنطقية لديهم والنظام والديكتاتورية على عالم المشاعر والعواطف التي قد يرون فيها المبالغة وانعدام الجدوى.

ومن الإساءات الوالدية أيضًا إهمال تثقيف الطفل من النواحي التربوية الجنسية، وتركه حائرًا متخبطًا في عالم محموم بشخصيات مسعورة جنسيًّا، تتصيد الفرائس؛ لتشوِّه المفاهيم والأسس الصحية الطبيعية للعلاقات بين الزوجين عند الأطفال، من خلال أساليب معرفية خاطئة، يضيع معها الطفل، ويقتبس ممارسات وأفكارًا جنسية خاطئة، قد تُدمر حياته!

تلك التخبطات التربوية تترك آثارًا سلبية شتى، تُسمى "الإساءة الوالدية"، التي بدورها تُسبب لدى الفرد جذورًا نفسية صعبة، كالإحساس بالخزي والعار، والإحساس بالذنب وألم الهجر.. وهذه التشوهات المشاعرية والتسلخات المعرفية هي بؤرة الاضطرابات النفسية المتعددة فيما بعد؛ إذ تتطور إلى مشاكل وعُقد واضطرابات في الشخصية والعلاقات، وتُشكل عوائق للنجاح والعيش بسلام.

فلا يكاد يكون هناك اضطراب نفسي بسيط أو صعب إلا وتكون الإساءة الوالدية والإهمال العاطفي وجراح الطفولة هي من أوائل الأسباب لذلك العارض، إن لم تكن السبب الوحيد له!

فلا تتهاون بها، وتعلَّم أبجديات التربية الصحيحة، ولا تتركها للحظ والفطرة.. فكم أخفق مَن قبلك عندما أهملوا تلك الأساسيات، وهربوا من المسؤوليات، حتى تعاظمت الإساءات وتراكمت، وأصبح الوالدان أول مَن يعاني من اضطرابات أبنائهما، وأكثر مَن يندم.

كما يشقى لإصلاحها ضحاياها، هذا إن فطنوا لها أصلاً، أو عاشوا بها، فتستمر الحلقة المفرغة تدور حتى يكسرها صاحب الوعي الأكبر في أي زمان يظهر.

ومهما ضاعت بوصلتك، وحارت بك السبل، تذكَّر أن التربية هي تواصُل وحوار ودفء في العلاقة قبل كل شيء؛ إذ إن الحب فيها هو سيد المشاعر، وأصل الموقف.. فمهما أخطأت في التوجيه، أو خانتك الأساليب، أو داهمتك الضغوط، تأكد أن الموقف لا يخلو من الحب والاحتواء والاعتذار، وحتى لو جاء متأخرًا فهو خير من أن لا يأتي؛ فهو صمام الأمان والخوذة التي تحمي طفلك من الصدمات -بإذن الله-.

والآن أجِب عن السؤال: هل أنت بريء منها؟

مُدرِّبة ومستشارة في الطفولة

محاضِرة بجامعة الملك سعود

www.mahaalhagabani.com

Twitter (X): @Maha_hagabani

Instagram: @Maha_hagabani

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org