لماذا لا نفكر خارج صندوق "التأمينات الاجتماعية"؟!

تم النشر في

نعيش في المملكة طفرة غير مسبوقة، قوة في المال وقوة في العقول والأفكار، أفكار خلاقة ومبادرات سباقة، نكاد نصيب العالم بالصداع لفرط أحلامنا وطموحاتنا، ونستحق اليوم عن جدارة أن نقود العالم بمبادرات ربما حتى ما يسمى بالعالم الأول لم يصل إليها؛ إنه الوقت المناسب لنقدم بكل ثقة حلولاً ومبادرات تطرق مناطق جديدة خارج الصندوق.

ففي عالم يتسارع فيه التغيير وتتطور فيه الاقتصاديات بسرعة مذهلة، تظهر الحاجة الملحة لإعادة النظر في العديد من الهياكل والمؤسسات التقليدية التي أصبحت ربما غير مناسبة لعصرنا أو لم تعد أفضل الخيارات؛ وإحدى هذه المؤسسات هي مؤسسة التأمينات الاجتماعية، التي رغم فوائدها الكبيرة في ضمان استقرار المتقاعدين، قد تكون بحاجة إلى إعادة تقييم جذري للنظر في مدى فعاليتها وتناسبها مع متطلبات العصر الحديث.

من ابتكروا النموذج الحالي أجزم أنهم بنصف إمكانياتنا اليوم ولديهم معطيات واحتياجات تختلف عن واقعنا، وبدلاً من الاتجاه إلى دمج مؤسسات التقاعد لماذا لا نفكر بالعكس، ونسعى لزيادة عدد المؤسسات.. بل ربما نخلق نموذجاً جديداً قائماً على المنافسة بين صناديق استثمارية مصممة خصيصاً لمنافع التقاعد؟

الفكرة التي نطرحها هنا هي استبدال مؤسسة التأمينات الاجتماعية التقليدية بنظام حر يسمح للموظفين باختيار صندوق ادخاري للتقاعد. هذا النظام، الذي يشبه إلى حد كبير أنظمة التأمين الإلزامية (التأمين الصحي والتأمين ضد الحوادث..)، يمكن أن يخلق سوقاً ضخمة للادخار التقاعدي ويحفز المنافسة بين المؤسسات المالية لتقديم أفضل العروض للموظفين.

في النظام الحالي، يُلزم الموظفون بالاشتراك في (التأمينات الاجتماعية)، حيث يتم استقطاع جزء من رواتبهم شهرياً لصالح هذه المؤسسة؛ ولكن ماذا لو أُتيح للموظفين اختيار الصندوق الذي يرغبون في استثمار مدخراتهم فيه؟ هذا سيعني أن الموظف سيكون لديه حرية أكبر في اختيار الصندوق الذي يعتقد أنه يقدم أفضل عائدات وأمان لأمواله.

الاقتراح سيؤدي إلى عدة فوائد رئيسية. أولاً، سيخلق سوقاً ضخمة للادخار التقاعدي، مما سيحفز المؤسسات المالية على التنافس لتقديم أفضل العروض والخدمات، وهذا يعني أن الموظفين سيستفيدون من تحسينات مستمرة في العروض المتاحة، مما سيؤدي إلى عائدات أعلى على مدخراتهم وتحسين جودة الخدمات المالية المقدمة لهم.

ثانياً، سيساهم هذا الاقتراح في تعزيز الوعي المالي لدى الموظفين، حيث سيكون عليهم اختيار الصندوق الأنسب لاحتياجاتهم. هذا سيتطلب منهم فهماً أعمق لكيفية عمل الأسواق المالية والاستثمارات، مما سيؤدي في النهاية إلى مجتمع أكثر وعياً واستقلالية مالياً.

ثالثاً، الاقتراح سيعزز من مبدأ الشفافية والمساءلة، حيث ستكون المؤسسات المالية ملزمة بتقديم تقارير دورية وشفافة عن أداء الصناديق الاستثمارية، وهذا سيسمح للموظفين بمراقبة مدخراتهم واتخاذ قرارات مستنيرة بشأن استثماراتهم.

بالتأكيد هذا الاقتراح لن يخلو من التحديات. وأحد أبرز هذه التحديات هو ضمان حماية الموظفين من المخاطر المالية وضمان أن تكون هناك رقابة صارمة على المؤسسات المالية لمنع أي تلاعب أو استغلال، بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الضروري توفير برامج تعليمية وتوعوية للموظفين لمساعدتهم على اتخاذ قرارات مالية مدروسة.

ولضمان نجاح هذا التحول الكبير، لا يمكن الاستغناء عن الدور الحكومي في تنظيم ومراقبة السوق الجديد لصناديق الادخار التقاعدي، ووضع إطار قانوني وتنظيمي قوي يحدد المعايير التي يجب أن تلتزم بها المؤسسات المالية، ويضمن حقوق الموظفين ويمنع أي ممارسات غير أخلاقية أو احتيالية، ويشمل كل معايير الشفافية والإفصاح الكامل عن رسوم الإدارة وأداء الاستثمارات.

كما نحتاج إلى إنشاء هيئة رقابية مستقلة تكون مسؤولة عن مراقبة أداء صناديق الادخار والتأكد من التزامها بالمعايير المحددة. وأن تكون لها صلاحيات فرض العقوبات على المؤسسات التي تخالف القواعد وتقديم التوجيهات اللازمة لتحسين الأداء. وهنا تأتي فكرة تحويل مؤسسة التأمينات الاجتماعية إلى هيئة عامة منظمة للسوق، بحيث تتولى هذه الهيئة مسؤولية تنظيم ومراقبة سوق الادخار التقاعدي وتقديم التوجيهات اللازمة لتحقيق أفضل أداء ممكن.

من جهة أخرى، يمكن للحكومة تقديم حوافز مالية لتشجيع الموظفين على المشاركة في صناديق الادخار، مثل تقديم إعفاءات ضريبية على المساهمات الشهرية أو تقديم مساهمات حكومية تكميلية لتحفيز الادخار، وهذه الحوافز ستزيد من جاذبية النظام الجديد وتساعد على تحقيق الهدف المنشود بتوفير تقاعد مريح وآمن للموظفين.

كل ذلك يرافقه توفير برامج تثقيفية وتوعوية شاملة للموظفين لزيادة وعيهم المالي وتزويدهم بالمعرفة اللازمة لاختيار الصندوق الأمثل لاحتياجاتهم، عن طريق برامج ودورات تدريبية وورش عمل ومصادر تعليمية تشرح أساسيات الاستثمار والادخار وكيفية تقييم العروض المختلفة من المؤسسات المالية.

وفي سياق الحفاظ على استقرار مؤسسة التأمينات الاجتماعية وعدم تضررها من انسحاب الاشتراكات الحالية، يمكن أن تُتاح للمؤسسة بالإضافة إلى استثماراتها وأصولها القائمة؛ فرصة المشاركة في صناديق الادخار التقاعدية بنسبة غير مسيطرة على القرار الاستثماري. وهذا سيعني أن المؤسسة يمكنها الاستثمار في هذه الصناديق وتحقيق عوائد من خلالها، مما يضمن تدفقاً مالياً مستداماً واستفادة من النمو المحتمل في سوق الادخار التقاعدي، دون أن تسيطر على هذه الصناديق أو تؤثر على قراراتها الاستثمارية.

وبالتأكيد الاقتراح يشمل أن يكون هناك تشاور بين الحكومة والقطاع الخاص لضمان أن النظام الجديد يستفيد من التجارب العالمية المماثلة، ويلبي احتياجات السوق ويتماشى مع التطورات الاقتصادية والتكنولوجية، وأن تعقد مؤتمرات وندوات تجمع بين الخبراء والمسؤولين وصناع القرار لمناقشة التحديات والفرص المرتبطة بهذا التحول والتوصل إلى حلول مبتكرة.

الفكرة أن استبدال مؤسسة التأمينات الاجتماعية بنظام حر يسمح للموظفين باختيار صناديق الادخار التقاعدي يمكن أن يكون خطوة جريئة نحو تحسين الأمان المالي للموظفين وتعزيز الحرية المالية لديهم، مع الرهان على إطار قانوني وتنظيمي قوي وصارم، وتقديم حوافز مالية تشجيعية، وتوفير برامج تثقيفية شاملة.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org