ألا ليت الزمان يعود يومًا!!

تم النشر في

اللعب مع أصدقاء وصديقات الطفولة، والجلوس مع مَن فقدناهم من الآباء والأمهات والأجداد.. السير في طرقات الحارات العتيقة، أو المرور من أمامها.. الضحكات الصافية التي كانت تنطلق من العمق.. الاستماع إلى أغنية كلاسيكية... إلخ، كل تلك من صور الماضي المشرقة التي ما زالت عالقة بدواخلنا حتى الآن، ونبتسم في دوخلنا بطريقة لا شعورية عندما نسترجعها، أو يعود بنا شريط الذكريات إلى ذلك الزمن الجميل.

مَن منا لا يمتلئ قلبه بالفرح والسرور عندما يقابل معلمه أو معلمته بعد سنوات طويلة من الغياب؟ ومَن الذي لا يشعر بتسارع دقات قلبه واضطراب دواخله عندما تشاء المصادفة أن يمر أمام الحضانة أو المدرسة التي شهدت أجمل أيام حياته؟ شخصيًّا، ما زلتُ أذكر عندما مررتُ يومًا خلال العام الماضي بإحدى البقالات الصغيرة في الحي القديم الذي كنا نسكن فيه. ارتفع صوتي بالضحك وأنا أسترجع ذكرياتي ونحن نجادل البائع المغلوب على أمره بشقاوة طفولية صافية، ونحاول إقناعه بتخفيض السعر، وفجأة سالت على وجهي الدموع عندما مرت أمامي صورة والدي –عليه رحمة الله– يُمسك بيدي أنا وبقية أخواتي وهو يأخذنا لشراء الحلوى.

هذه الحالة يطلق عليها علماء النفس اسم "النوستالجيا"، التي تعني التعلق بالماضي، وهي حالة لا يكاد يسلم منها أحدٌ لدوافع متعددة، تختلف من إنسان لآخر.. فالكثيرون يفتخرون بإنجازاتهم، والبعض محبط من واقعه أو متوجس من مستقبله؛ لذلك يلوذ بالماضي خوفًا من القادم المجهول، على قياس المثل الشعبي المصري الشهير "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش".

هناك بعض مَن أخفقوا في حياتهم، وعجزوا عن تحقيق أحلامهم؛ فنشبت لديهم قطيعة مع الحاضر، ويأس من المستقبل؛ لذلك يتمسكون بالماضي بحثًا عن السلوى والعزاء. وهذا سلوك خاطئ بدون شك؛ لأن الإخفاق مرة لا يعني -بطبيعة الحال- الاستسلام والرضا بالفشل، بل هو دافع للنهوض والعمل من جديد.

وربما تكون التعقيدات التي تملأ حياتنا اليوم سببًا في ذلك التوق إلى الماضي؛ فقد أصبحنا وكأننا نعيش في ميدان سباق واسع، نمارس فيه نوعًا من الجري واللهاث اليومي المرهق، حتى أن الواحد عندما يأوي إلى فراشه في آخر اليوم يشعر بالإنهاك، وعدم القدرة على تحريك أطراف جسده.

أما الحياة في الماضي فقد كانت أكثر سهولة، ولم نكن نعرف الركض وراء التخفيضات وعروض الشراء المتلاحقة التي تطاردنا يوميًّا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وحتى هذه الوسائل أتصور أنها جزءٌ أساسي من هذه الحالة؛ فعلى الرغم من أنها وُجدت أساسًا لتعزيز التواصل إلا أنها سلبتنا عاداتنا الاجتماعية المتميزة.. فبينما كنا نحرص على التلاقي مع أقاربنا وأحبابنا أصبحنا الآن نكتفي برسائل باردة، وكلمات مكررة وخالية من الإحساس، نبعثها عبر الواتساب وغيره في الأعياد والمناسبات، وكأننا تخلَّصنا من عبء ثقيل.

ولا يقتصر الحنين إلى الماضي على الشخصيات والأماكن فقط؛ فربما يكون مرتبطًا بالحنين إلى أنفسنا.. شكلنا، وملامحنا التي تغيرت، وأعمارنا التي تتسرب من بين أيادينا، وأحلامنا التي طوتها دفاتر الأيام.

فخصلات الشعر الأبيض التي تتسلل إلى رؤوسنا تُشعرنا قطعًا بالهلع، وتزيد إحساسنا بالرعب من سرعة مرور الأيام والأحداث.. وكل ذلك يشعرنا بالشوق إلى الماضي، والتمسك به.

ولأن المشاعر مرتبطة بالصحة النفسية والعقلية -كما يقول المختصون- فلا ينبغي الاسترسال في تلك الحالة من الشوق للماضي والتعلق به؛ لأنها قد تصبح –إن زادت عن حدها– مدعاة للإحباط، وسببًا لتفشي اليأس في النفوس.

فالماضي لن يعود، وعجلة الزمان لا تدور إلى الخلف.. فلكل مرحلة عمرية مفرداتها الخاصة بها، وبإمكاننا أن نستمتع بيومنا ونبحث عن السعادة وسط تفاصيل حاضرنا، ونصنعها بأنفسنا.

ولتكن ذكرياتنا الحلوة دافعًا لنا للانطلاق نحو غدٍ أفضل.. ودعونا نغني مع كوكب الشرق أُم كلثوم "إنما الحاضر أحلى".

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org