لكل إنسان عقلان !
على مقربة من تلك البحيرة رأيت طفلاً غريقاً ما إن شاهدته حتى شاهدت والده قد رمى نفسه خلفه دون تفكير محاولاً إنقاذه!
موقفٌ آخر، منزل يشتعل ناراً خرجت العائلة مرعوبة، وكانت الأم تتفقد أبناءها، فلم تر صغيرها بينهم فإذا بها تدخل المنزل وهو يشتعل محاولة إنقاذ صغيرها !
في تحليل هذين الموقفين هل نستطيع أن نقول: إن لديهم عقلًا، أو دعونا نخصص ( عقلًا منطقيًا ) أم أن لديهم عقلًا آخر دوافعه أخرى !؟
ذكر د. دانيال جولمان في كتابه الذكاء العاطفي أن الإنسان لديه عقلان:
عقل منطقي، بمعنى واعي، وعقل لاواعي، أو بمعنى آخر عاطفي.
الاول يدرك الأمور ويحللها، والآخر تحكمه العاطفة ولا يعي الحقائق أو يحللها، وهذا التفرع الثنائي يطلق عليه العامة العقل والقلب .
بداية ماهي العاطفة؟ ذكرت بعض المؤلفات أنها إثارة الشفقة والرحمة، والميل الى المحبة والبر والوصل، ومركزها القلب، قال سبحانه: ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ). آل عمران: ١٥٩
إن هذين العقلين: العاطفي(القلبي)، والمنطقي يعملان بالتنسيق مع بعضهما البعض في معظم الأحداث؛ ولكن من المسيطر في أوقات الذروة أو الأوقات الحرجة التي يكون فيها القرار مصيرياً بحياتنا أو حياة غيرنا؟
لفهم ذلك نعود إلى أبحاث جوزيف دلوكس أحد علماء الأعصاب وهو أول من اكتشف دور عمل اللوزة في الدماغ (amygdala) ودورها في العقل العاطفي حيث اكتشف أنها تتحكم وتسيطر على أفعالنا حتى عندما لا يكون العقل المفكر أو القشرة الدماغية قد توصلت بعد إلى قرار، ولذلك فإن بعض المشاعر لاتسير إلى القشرة الدماغية لتحليلها ومن ثم تعطي الاستجابة المناسبة في الوقت المناسب خلافاً عن ذلك تسير إلى اللوزة مركز دماغي بدائي يعطي الأوامر إستجابة بصورة عاجلة جداً دون وعي ولا تحليل ودون منطق، تحكمه العاطفة والتجارب السابقة المخزنة وهي قادرة على السطو على العقل وبذلك تثبت مدى قوة العواطف وطغيانها على العقل والمنطق!
بل كيف يؤذي إنسان آخر أو يعذبه أو حتى يقتله !
ولأن العقل في الإسلام هو مناط التكليف ومداره فقد جاءت الآيات تدعو إلى التعقل والتفكر، ذكر المؤلف حاتم السروري في كتابه تاريخ العقل في الاسلام: أن القرآن بأكمله دعوة صريحة لتحرير العقل من عقاله بعبارات شتى تختلف من حيث الأسلوب، وتتحد في المعنى إلى استعمال العقل والتحاكم إليه؛لأنه إمام عادل ومن تلك الآيات:( أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ( أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) ( لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ )
وفي السنة النبوية جاءت الأحاديث الكثيرة تدعو إلى تحكيم العقل، ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه العقل وفضله: أن رجلاً من بني قشير أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنما كنا نعبد في الجاهلية أوثاناً نرى أنها تنفع وتضر، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من جعل الله له عقلاً" وقال صلى الله عليه وسلم: "ماتم دين الرجل حتى يتم عقله" وقد قال صلى الله عليه وسلم لأشج بني عبد القيس: "أن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله وهي الحلم والأناة"، ومن المعلوم أن الحلم يطلق ويراد به العقل والأناة هي التثبت وترك العجلة .
إذاً لماذا جاءت كل تلك الآيات والأحاديث تدعوا إلى تحكيم العقل ؟
لأنه كثيراً ما تقودنا العواطف إلى قرارات وتصرفات غير مدروسة وغير موفقة بدلاً من القرار القائم على (العقل ) والبصيرة والتفكر والمعرفة؛ وذلك لأن العواطف ترتبط بالغرائز والانفعالات وعندما تسيطر على تفكير الإنسان وسلوكه فإنها تُغيب عقله.