تحويلة

في عمر السنتين يحدث ما لا يحدث في غيره للإنسان في مراحل حياته؛ فهو يغدو طاقة قصوى، تتأهب فيها كل أجهزة الجسم لاكتشاف هذا العالم المثير من حوله!! فتصبح كل الأشياء التي حوله أهدافًا استراتيجية، يسعى سعيًا حثيثًا دون كلل للوصول لها، وتجربتها، واللعب بها!

"فيش الكهرباء" ذو الثقوب الغريبة، تلك الأسلاك المثيرة، وذاك المكان الجذاب المليء بالسكاكين اللامعة، وتلك المساحيق الملونة، والأجهزة المليئة بالأزرار ذات الأصوات، والمنظفات البراقة، والمفكات التي تبدو جذابة للإمساك بها.. واااااو!! فتجده يقول لنفسه: "إنه عالم مثير حقًّا".

كما أن قدراته في المشي والإمساك والتوازن قد تحسنت؛ ما يساعده على الهرب والاختباء للاستمتاع بتجربة تلك الأشياء قبل أن يلاحظه أحد، ويقتل المتعة بتلك الجملة: "لا لا يا سعود، وش تسوي، ممنوع، خطر!!".

يكاد يفقد الأهل أعصابهم في هذه المرحلة، وتتزايد مستويات القلق والخوف لديهم، كما تبدأ الأحكام لا إراديًّا في التربص بذلك الصغير: "عنيد، حركي، يخرب، متعب، عصبي، يكبكب"..

أتفهم قلقكم، ولكن مما سيهدئ من روعكم، ويزيد رباطة جأشكم لتحمُّل تلك المرحلة، هو استيعاب أن عقل الصغير في هذه المرحلة يمرُّ بأكثر مراحل العقل نشاطًا وجاهزية لاستقبال مفاهيم هذا الكون؛ فلا يمل ولا يكل ولا يتعب من التجربة والحركة والاكتشاف؛ لذلك إن وعيك عزيزي القارئ بخصائص هذه المرحلة الموقوتة سيخفف عليك وطأة الخوف، وتساؤلات الحيرة: هل يعد سلوكه طبيعيًّا؟ أم إن طفلي لديه مشكلة؟

إن كل ما يحتاج إليه طفلك منك في هذه المرحلة حتى تمر بسلام هي البيئة الآمنة، والبدائل المحفزة للاكتشاف من الأنشطة المتنوعة باستمرار، وتقبُّل الكركبة، والسماح ببعض أنواع اللعب الفوضوي؛ لأن تلك المخلوقات ذات العامين سريعة الملل، ليس بسبب شخصيتها، ولكن بسبب سرعة نمو عقلها، وتزايد الوصلات العصبية بين خلايا المخ الذي يتعلم بسرعة، ويريد الانتقال لشيء جديد بشكل سريع. كما أن فترات الانتباه لديهم أقصر مما نتخيل! لذلك لا أبالغ إن قلت إن أكثر شكوى متكررة من الأمهات هي أن أطفالهم في هذا العمر لديهم ألعاب كثيرة، ولكنهم يمسكونها دقائق ثم يرمونها بحثًا عن شيء آخر! فيُحبَط المربي من محاولاته اليائسة في تسلية ذلك الصغير؛ والسبب لا يعود لمشكلة فيه، بل لتوقعاتك الخاطئة؛ فلا يوجد طفل في عمر العامين يستقر في مكانه أكثر من بضع دقائق!!

فكن واقعيًّا، وملمًّا بخصائص تلك المرحلة التي تسفر عن ملامح الاستقلالية فيها كذلك؛ فتصبح كلمة "لا" هي ديدنه؛ لأنه اكتشف للتو أن له ذاتًا مستقلة عن والدته، وبإمكانه السيطرة والحصول على ما يريد.

وإضافة إلى حركتهم الدؤوبة، تواجهنا معهم مواقف صعبة، يلجؤون فيها للانفعال والصراخ ونوبات الغضب الهستيرية؛ فيشعر المربي باليأس والاستسلام لرغبات ذلك الصغير مهما كانت "عطيه تكفين اللي يبي خليه يسكت بس".

والمشكلة أن ذلك السلوك الانهزامي من الأهل لا يزيد ذلك الاستقلالي الصغير سوى إصرارًا كل مرة في تحقق ما يريد.

وهنا تبدأ الدائرة المفرغة من تعوُّد الطفل على ما يزعج الأهل من سلوكيات، تكون في بدايتها مستلطفة، ولكن إلحاحه عليها يجعلها أشبه بسلوك إدماني من الصعب إيقافه.

"بابا وديني بقالة"، "ماما أبي آيباد".. ومن هنا تبدأ معاناة الأهل، ويزداد تشوش التفكير؛ لأن صراخهم وطلبهم المتكرر في الأوقات التي تكون مضغوطًا فيها أو مشغولاً يصبح أكبر مهدد للراحة والتركيز، بل يشل التفكير!!

والحل رغم سهولته إلا أنه صعب التطبيق؛ فنحن بكل بساطة نحتاج إلى "تحويلة".

فعندما يطلب الطفل طلبه المعتاد، ثم يبدأ بالانفعال والصياح، كل ما تحتاج له هو الثبات على رأيك بالنفي، ثم تحتاج إلى "تحويلة" لتوجيه انتباهه لأمر آخر؛ حتى لا يتصاعد الصراع بينكما، وتفقد أنت صبرك، ويكسب هو بعد ربع ساعة أو حتى ساعة ما يريد!!

وهنا أقصد بالتحويلة أن تحوِّل انتباهه لشيء آخر، نشاط جديد، فكرة مضحكة، طبخة، شقلبة، مسابقة.. وغيرها من أمور كافية لشد انتباهه لبضع دقائق، تستعيد فيها أنفاسك، وينسى فيها طلبه الأساسي، ويبدأ باليأس فعلاً، والتصديق بأنك تعني ما تقول؛ فيكون السيناريو أشبه بالآتي:

1- بابا أبي بقالة

2- الرد "اليوم ما فيه بقالة، اتفقنا بس يوم الخميس"

3- تحويلة

4- الثبات

ومن المهم أن تسبق ذاك باتفاقية لتحديد يوم الذهاب إلى البقالة مثلاً، وأن يلتزم به الأهل.

تذكَّر: ثباتك وجديتك فيما تقول، مع توفير تحويلات وبدائل غنية، تشغل فضوله، وكفيلة بأن تجعله ينسى، وتملأ وقته، وتغذي نهمه للاكتشاف واللعب.. كفيلة بأن يهدأ؛ فتخف تدريجيًّا نوبات غضبه، وتستعيد أنت زمام السيطرة؛ لتصبح أنت القائد وليس هو.

ومن حكمة الله أن جعلها مرحلة قصيرة، تمضي بسرعة، ولكن الأولى أن تمضي برصيد من الأنشطة والمهارات وساعات اللعب والحركة والتفهم لمشاعر ذلك الصغير؛ حتى تمضي بسلام، بدلاً من الرضوخ لسلوكيات تجعل المراحل التالية أصعب مما يجب أن تكون عليه.

Related Stories

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org