الفنون نبض المجتمعات ومقياس حضارتها

تُعتبر الفنون بجميع أنواعها (الشعر، والدراما، والموسيقى والرسم)، وغير ذلك، بمنزلة مرآة صادقة، تعكس ثقافة الشعوب وحضارتها، وتناغُم أفرادها، بغض النظر عن العِرق واللون والجنس.. فالفن ذوق وأخلاق وإبداع، وهو منبع الإلهام الذي لا ينضب؛ لأنه يشرح حقيقة المجتمع، ويتحدث عنها بلسان مبين، وهو النبض الحقيقي الذي يترجم صور الطبيعة والجمال لأي بلد؛ فكلما ارتقت حالة الفنون كان ذلك بمنزلة مؤشر واضح على مقدار ما تتمتع به تلك المجتمعات من حضارة وتمدن.. وكذلك العكس صحيح.

وقد عرفت بلادنا نهضة فنية وأدبية، وازدهرت فيها الفنون منذ عهود طويلة؛ فكان سوق عكاظ ساحة أدبية فريدة، يجتمع فيها الشعراء والخطباء؛ ليعرضوا إنتاجهم الأدبي من شعر ونثر. كما كانت مجالس الملوك والأمراء تشهد منافسات حامية بين الشعراء والخطباء، يُتحفون فيها الحضور بنوادرهم، ويُقدِّم فيها المغنون أغانيهم، وغير ذلك من أنواع الأدب التي كانت متاحة في ذلك الزمن.

ومع تأسيس المملكة العربية السعودية يكشف لنا التاريخ أن الملك المؤسس المغفور له -بإذن الله- عبدالعزيز آل سعود أولى عناية فائقة بالعلماء والأدباء والشعراء، وأجزل لهم العطاء، ووفر لهم بيئة مواتية للإبداع. كما واصلت السعودية الاهتمام بترقية المشهد الثقافي، وأقامت المهرجانات والمنتديات والمواسم المتعددة، مثل مهرجانات الكتب ومهرجان الجنادرية، وحظيت الأندية الأدبية بالرعاية، وأُنشئت العديد من الجوائز الأدبية المرموقة التي باتت هدفًا للمبدعين من الدول العربية والإسلامية كافة.. وكل تلك الجهود تؤكد أن الإبداع والجمال جزء أساسي من ثقافتنا وهويتنا ومفردات حياتنا.

وإن كانت بلادنا قد شهدت خلال فترة من تاريخها حالة من الركود في مجال الفنون لأسباب ليس هذا مجال الحديث عنها، فقد تبدلت الأوضاع في هذا العهد الزاهر الذي نعيشه اليوم؛ إذ تنشط وزارة الثقافة في صنع بنية تحتية فنية معاصرة، وذلك عبر احتواء المبدعين، وتمليكهم أدوات الإبداع وفق أساليب وأسس علمية حديثة.

أبرز ما يحضر في هذا المقام هو برنامج الابتعاث الثقافي الذي يهدف لإيجاد كوادر ومواهب وطنية مؤهلة في جوانب الثقافة والفكر والأدب كافة ؛ إذ تشمل مجالات الدراسة الموسيقى، والأدب، والمسرح، والتمثيل، والنحت، والرسم، وعلوم الأزياء، والطهي، والمتاحف، والتراث، والمكتبات.. ودراسات أخرى متعددة في أرقى الجامعات العالمية.

ومما يلفت النظر أن معظم هؤلاء من الشباب؛ إذ تم تخصيص نسبة 95% من المبتعثين لنيل درجتَي البكالوريوس والماجستير، فيما تم تخصيص 5% لدرجة الدكتوراه.

هذا التوجه نحو تحقيق نهضة فنية متكاملة ينطلق من رؤية عميقة، تنظر للفنون على أنها ليست مجرد ترف تمارسه نخب من المثقفين في صالونات أدبية مغلقة، أو نتاج يُنشر على صفحات الصحف، بل ينبغي أن تكون جزءًا من ثقافة المجتمع.. وأن الفن هو في مقدمة الوسائل التي ينبغي استخدامها في إيصال رسالتنا الحضارية إلى العالم كله، وأبرز أدوات القوة الناعمة؛ لأنه يسهم في زيادة قوة السعودية للتأثير على محيطها وعلى العالم الخارجي، وهو سلاح تدافع به الأمم عن وجودها، وتنشر بواسطته ثقافتها، وتروج به لمنتجاتها الاقتصادية وقدراتها السياحية.

حتمًا سيعود أولئك المبتعثون وهم يحملون بين أيديهم أدوات الإبداع، وسيمثلون نواة لمجتمع أكثر إبداعًا، وأنصع صورة.. فهذه الخطوة الرائعة تتيح لهم الوصول للعالمية، وتزيل من أمامهم العوائق التي كانت تواجههم في السابق، وتحد من قدرتهم على العطاء، وتمنحهم في الوقت ذاته الفرصة للاحتكاك بأصحاب الخبرات الرائدة على المستوى العالمي.

الأهم من ذلك أن تسهم هذه الكوادر في تقديم منتج سعودي إبداعي خالص، يتوافق مع تقاليدنا وعاداتنا، ولا يتصادم مع قيمنا وثوابتنا.. فنحن نعيش في عصر لم يعد فيه مكان للمتكاسلين، ومن لا يملك برنامجًا ثقافيًّا وحضاريًّا متكاملاً، يُعبِّر عنه، ويشرح واقعه، ويترجم تطلعاته.. فإن مصيره الذوبان في برامج الآخرين، والبقاء في مقاعد المتفرجين.

Related Stories

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org