غياب الإبداع يؤرِّق عُشاق الدراما السعودية
تلعب الدراما بمختلف أنواعها، كوميديا أو تراجيديا، دورًا كبيرًا في تشكيل المجتمعات المعاصرة؛ بسبب الإقبال عليها، وقدرتها الكبيرة على مخاطبة جميع شرائح المجتمع، ودخول البيوت كافة بدون استئذان؛ إذ أصبحت وسيلة أساسية لتناوُل حياة الشعوب، ومعالجة مشكلاتها.. بل يمكن القول إنها أصبحت إحدى أقوى وسائل القوة الناعمة التي تتبعها الدول والأمم لنشر ثقافاتها، والتعريف بقدراتها الاقتصادية والاستثمارية، والترويج للسياحة.
كذلك، مستوى صناعة الدراما في أي دولة قد يكون عاملاً لمقياس مدى حضارة شعبها ورقيه؛ فالفن هو مرآة المجتمع.
وقد ساعدت ثورة الفضائيات، وانتشار الإنترنت خلال العهد الحالي، في تعظيم أثر الدراما.. ففيما كانت مصادر البث في السابق محدودة، وتقتصر على قنوات التليفزيون الحكومية، تعدَّدت في وقتنا الحالي، وصارت هناك آلاف الفضائيات المتخصصة في تقديم الأعمال الدرامية، إضافة إلى المنصات على مواقع الإنترنت.
والناظر لواقع الدراما السعودية يجد أننا رغم الانطلاقة القوية التي حدثت خلال العقدَين الماضيَين إلا أن التقدُّم الذي حدث لا يزال دون مستوى الطموح، ولم نشاهد بعد الأعمال التي تُرضي المشاهد السعودي المعروف بذائقته الفنية العالية.
ومع التسليم بوجود محاولات جادة، وجهود مبذولة من قِبل البعض، إلا أنها تظل محدودة؛ فما زالت الدراما السعودية تدور في فلك التكرار.
فمعظم الأعمال الدرامية تركز على قضايا محددة، مثل التمييز ضد المرأة في أماكن العمل، أو مصادرة ميراثها بواسطة أقاربها.. نعم، ربما تكون هذه القضايا موجودة، لكن التركيز عليها بهذه الدرجة ربما يعطي الآخرين صورة سالبة عن هذا المجتمع، كما أنه يحجب الإنجازات التي حققتها المرأة السعودية، والحقوق التي نالتها، والمكاسب التي أنجزتها.
لذلك فنحن بحاجة ماسة إلى تقديم منتج إبداعي، يناقش قضايانا المستجدة، ويعرض مشكلات مجتمعنا وتطلعاتنا.
نحن بحاجة إلى ثورة حقيقية في الأفكار، تقتلع الجمود والرتابة، وترمي بهما في غياهب النسيان، وتتجاوز الأساليب القديمة التي فقدت بريقها، ولم تعد قادرة على جذب انتباه أحد، وترسخ قواعد الإبداع.. فالعالم يتغير بسرعة مذهلة، وما كان يشد انتباهنا قبل سنوات طويلة ليس بالضرورة أن يكون كذلك اليوم.
كذلك، من المفارقات المحزنة أن المال السعودي الذي كان عنصرًا أساسيًّا في إنتاج العديد من الأعمال الدرامية الخالدة التي أنتجتها دول عربية أخرى لا يزال مترددًا في تقديم الدعم ذاته للدراما السعودية؛ فالعديد من المخرجين والمبدعين يعزون السبب في تضاؤل الأعمال الدرامية المتميزة خلال الفترة الماضية إلى عدم وجود التمويل المطلوب.
ومن باب الإنصاف، لا بد من الإشارة إلى الجهود الكبيرة التي بذلتها وزارة الثقافة خلال الفترة الماضية بتدشين برنامج الابتعاث الثقافي، الذي يهدف لإيجاد أرضية علمية قوية للنهضة الفنية، بإرسال أعداد كبيرة من الشباب لعدد من أرقى الجامعات العالمية؛ لدراسة التمثيل والإخراج والمونتاج.. فهؤلاء المبدعون سوف يعودون بعد أن يتشربوا أصول هذه المهنة التي لم تعد تعتمد على التهريج والارتجال.
ومما يثير الإعجاب بالبرنامج أنه لم يقتصر على المبتدئين والشباب فقط، بل يشمل درجتَي الماجستير والدكتوراه، إضافة إلى البكالوريوس.
وما دمنا نعيش في عهدٍ تحوَّل فيه اهتمامنا إلى رفع مستوى جودة الحياة، وتعاظم فيه التركيز على عنصر الترفيه، فلن نرضى بأقل من تعريف العالم بإسهامنا الحضاري منذ فجر التاريخ، وتغيير الصورة الذهنية الموجودة لدى البعض بأننا مجرد دولة نفطية، وإطلاع الآخرين على تفاصيل مجتمعنا، وقيمنا الراقية، وعاداتنا الأصيلة.
ومع التسليم بأن الثقافة منتج عالمي إلا أن البعض يستغل هذه الوسيلة لتمرير أفكار دخيلة، ومبادئ مرفوضة.. فإذا كنا نريد الحفاظ على قيمنا ومبادئنا، ونشر الفضيلة، والترويج للفن الرسالي، والقيم الرفيعة.. فلا بد أن نوفر لأبنائنا منتجات راقية، تكون قادرة على إقناعهم بمتابعتها، وتُمثِّل بديلاً مقبولاً لهم من متابعة الإسفاف الذي يحاصرهم من كل اتجاه؛ وبذلك نكون قد قمنا بحمايتهم من الذوبان في ثقافات الآخرين، وحفظناهم من الاستلاب والضياع.