منبر الحق

تم النشر في

في رثاء سماحة المفتي فضيلة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ رحمه الله تعالى والذي وافته المنيه يوم الثلاثاء 1/ 4/ 1447 هـ

رحل عنا رجلٌ لم يكن مجرد عالمٍ في محراب العلم، ولا قامة فقهية بين صفحات الكتب، بل كان ضميرَ الأمة ولسانَها المبين، ينهل الناس من حكمته، ويستضيؤون بنور فتواه، فيسكن الخلاف وتطمئن القلوب.

لقد كان سماحته مدرسةً في السكينة والتواضع، وعنوانًا للوسطية والاعتدال، يزن كلماته بميزان الشرع والرحمة، فلا يَقصُر علمه على الخاصة، بل يفيض عطاؤه على العامة، يُيسِّر ولا يُعسِّر، ويجمع ولا يُفرِّق، ويهدي النفوس إلى سواء السبيل.

وما أعمق أثره حينما كان يتحدث، كأنك تسمع صدى العلماء الأوائل، وكأن روح السلف الصالح تسري في عباراته. فإذا أفتى أزال غموض المسائل، وإذا وجَّه بَصَّر القلوب، وإذا نصح جبر الخواطر، وإذا ابتسم أنعش النفوس.

كان سماحة المفتي خطيبًا مصقعًا، إذا ارتقى المنبر هزّ القلوب ببلاغته، وأحيا العقول بفصاحته، فكان حديثه لا يُملّ، وكلماته لا تُنسى، يكسوها نور الإيمان، وتعلوها هيبة الحق مدافعا عن العقيدة والمنهج السليم

بل كان وجهًا اجتماعيًّا بارزًا، حاضرًا في الملتقيات، مشاركًا في هموم المجتمع، قريبًا من الكبير والصغير، يُجالس الفقراء كما يجالس الوجهاء، ويجبر الخواطر بابتسامته وكلماته الطيبة.

كانت علاقته بالأمراء قائمة على النصح الصادق والولاء المكين، فقد كان مستشارًا أمينًا، يرفع الكلمة المخلصة، ويصدع بالحق برفقٍ وحكمة، فيحظى بمحبّتهم وثقتهم، ويبادلهم التقدير لما يقدّمونه لخدمة الدين والوطن. كان يقف معهم في الملمات، ويرافقهم في مناسبات الأمة، فيزيد حضورُهُ المهابةَ مهابةً، والمجلسَ نورًا على نور

كان سماحة المفتي واحة علمٍ وملتقى فضيلة، يقدّره العلماء ويجلّونه، ويقصدونه للمشورة والمناظرة، فيجدون فيه صدرًا رحبًا وقلبًا نقيًّا، يجمع بين حدة الفهم ولين الطبع. كان يرى في العلماء شركاء الرسالة وحَمَلة الأمانة، فيتبادل معهم الرأي، ويشدّ من أزرهم، ويستضيء بمداولاتهم. لقد كان واحدًا منهم، لكنه في مقامه ومكانته أبٌ لهم، يربط حاضر العلم بماضيه ويستشرف به مستقبله

فكان سماحته بحقّ جسرًا بين العلماء والأمراء، يجمع الكلمة، ويصلح القلوب، ويجعل من علمه ورأيه الحكيم مظلةً رحيمة تظلّل الناس جميعًا

لقد كان لي شرفُ زيارة سماحة المفتي برفقة سمو الأمير عبدالعزيز عبدالعزيز بن محمد بن جلوي المشرف على جمعية قبس للقران والسنة والخطابة وكانت تلك اللحظات محفوفةً بالمهابة والسكينة. دخلنا على رجلٍ اجتمع فيه وقار العلماء وهيبة الحكماء، فاستقبلنا بابتسامةٍ تُشعّ بالرحمة، ونظرةٍ تفيض بالحنان والإيمان.

جلس سمو الأمير يستمع، وجلستُ أتشرف بالقرب، فكانت توجيهاته نورًا ووصايا عميقة يدعو إلى التمسك بالقران والسنة بمفهوم سلف الامة ، ويؤكد على نشر الاعتدال، ويشدد على مسؤولية كل فرد تجاه وطنه ومجتمعه. كلماتُه لم تكن مجرد عِظات، بل خارطة طريق ترسم ملامح الصلاح والنهضة، وتغرس في القلب يقينًا بأن الدين رحمة، وأن خدمة الناس عبادة.

خرجنا من عنده ونحن نحمل في قلوبنا أثرًا لا يُمحى، وشعورًا بأننا التقينا بعالمٍ ربّانيّ، يُجسّد في تواضعه وسماحته صورةً من صور الخير التي تبقى خالدة في ذاكرة الأمة

وُلِد سماحة المفتي يتيمًا، فكان يتمُه بدايةَ امتحانٍ ربّاني، لم يكسر قلبه بل صاغ عزيمته. تربّى في كنف أمٍّ صابرةٍ حنون، حملت عنه ثِقَل الحياة، وربّته على مكارم الأخلاق، وغرست في قلبه حبَّ العلم والإيمان.

لم يكن يتمه فراغًا، بل كان منبع قوة، فمن حضن الأم خرجت شخصية متينة، عرفت معنى الرحمة في الصغر، فعاش ينشرها في الكِبَر. وحينما اشتدّ عوده، صار لسانًا للأمة، وفقيهًا يُستنار به، وخطيبًا يهدي الناس سواء السبيل

برحيله، تُطوى صفحة من صفحات العلم المشرقة، لكن تبقى سيرته جسرًا للأجيال، وتبقى أقواله منارات هادية، وتبقى مواقفه شاهدًا على أن العالم الرباني لا يموت وإن غاب جسده.

برحيله، ترحل سيرةُ طفلٍ يتيمٍ صار عالمًا جليلًا، وتبقى قصةُ أمٍّ عظيمةٍ صنعت بمثابرتها وصدقها رجلًا تخلّد أثره في القلوب والذاكرة

نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يرفع درجته في عليين، وأن يجعل ما قدّم للأمة صدقةً جاريةً تفيض حسناتها إلى يوم الدين.

يا مَنبرًا للحقِّ يبكي بعدك المِحرابُ

والفَجرُ قد غَشَّاهُ دمعٌ بالأسى وَصَّاب

ها قد رحلتَ وأنتَ نُورُ دِيَارِنا

والعِلمُ بعدَكَ في القلوبِ مصاب

نمْ هادِئًا فالعُمرُ قد أبقيتَهُ شَرفًا يُؤرِّخُهُ لنا الأنجاب

والله نسألُ أن يتم لقاءنا

في جَنَّةٍ فيها النَّعيمُ يُذاب

كنتَ الإمامَ إذا تكلّمَ خاشِعًا سكن الجوى وتفتحت أبواب

واليَومَ نَنعى فَقدَ عِلمٍ شامِخٍ

وبفقده بعض الأحبة غابوا

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org