نتضايق من بعض السلوكيات خلال رحلة التربية وممر الحياة، ولا غرابة في ذلك؛ بل هو أمر طبيعي متوقع، وقد تتجه لشخص مقرب لتشكو وتبث همك وصداعك في ذلك اليوم، ولا بأس أيضًا.
إذن أين المشكلة؟
عندما يتكرر هذا السلوك المنغص بشكل يومي، ويبدأ في التأثير على مزاجك وحياتك شيئًا فشيئًا؛ لكنك لا تفعل شيئًا جديًّا حيال ذلك، سوى أنك تستمر في الحلطمة والقلق أو التذمر من تلك الحالة، والانزعاج الذي يتحول لعادة؛ فتلك هي المشكلة!
دعوني أوضح أكثر..
نتضايق أحيانًا من بعض المشاكل والمنغصات أو السلوكيات لأبنائنا، ونستمر في ذلك الانزعاج وتحمل ذلك الشعور يوميًّا، وربما لأشهر أو حتى سنوات!
ولكن ماذا فعلنا لتغيير ذلك السلوك؟
أكاد أجزم أن الإجراء المتخذ هو هو منذ مدة طويلة..
فلا عجب حينئذ أن السلوك لم يتغير!
بل ربما تجده قد تفاقم وتشعبت خطوطه.
هناك قاعدة تربوية تقول: "إن لم تتغير النتيجة، فاعلم أنك تستخدم الأسلوب الخطأ".
وهناك قاعدة تربوية أخرى تقول: "إن الأسلوب الأمثل هو الذي تتغير معه النتائج للأفضل".
وبدمج القاعدتين يصبح المطلوب لتغيير أي سلوك مزعج هو: "الاستمرار بتغيير أساليبك حتى تتغير النتيجة للأفضل".
ولا يعني هذا الكلام أن نستخدم أساليب قهرية وإجبارية لإحداث التغيير؛ فالأساليب الأفضل دائمًا هي الأساليب ذات القوى الخفية الذكية والناعمة، فهي تجعلهم أفضل لكن بذكاء ودون صراع وتبعات نفسية مؤذية لهم.
وهي أفضل بمراحل من تلك الطرق المليئة بالنصح والصراع والشد والجدال وفرض الأوامر.
يا سادة..
عندما تواجهنا مشكلة في الحياة، فإننا في الغالب نسلك إحدى طريقين:
إما منهج الحل السطحي (سريع وسهل).
أو منهج الحل الجذري (بطيء وصعب).
في أسلوب الحل السطحي، سيكون الحل سهلًا على الأغلب، وأسرع، والمفارقة أنه قد يبدو منطقيًّا أكثر من ناحية ارتباطه بالسلوك؛ ولكنه في الحقيقة هو حل مؤقت، لا يؤثر في حل المشكلة؛ بل يفاقم أعراضها من حيث لا يعلمون.
وغالبًا يقع في فخه الأشخاص الأقل وعيًا وحكمة وصبرًا.
تَخَيل معي منزلك وقد وجدت فيه جدارًا يتسرب منه الماء، ماذا ستفعل؟ هل ستمسح تلك القطرات بأقرب خرقة لتجفف المكان؟ أم ستبحث عن أفضل شركة لفحص التسريبات وتحل مشكلة التسرب من جذورها حتى لا تتفاجأ يومًا ما بفيضان في منزلك؟!
والآن دعني أُقَرّب لك الفكرة: مثال ذلك الطفل الذي يضرب أخاه الصغير فننهاه عن الضرب بالصراخ وربما بضربه حتى يتوقف.. ماذا سيحدث؟!
سيتوقف الطفل، وبسرعة تُرضيك؛ ولكنها في واقع الأمر خوف منك وليست اقتناعًا، فأنت لم تحل المشكلة حلًّا جذريًّا؛ لذلك فإنها ستعود بشكل أكبر يومًا ما!
أما الحل الجذري فهو أصعب بلا شك وثقيل بعض الشيء، كما تحتاج إجراءاته لوقت أطول وجهد أضنى، وهو في الغالب لا يبدو منطقيًّا ولا مرتبطًا بالسلوك للوهلة الأولى.
فأحد الحلول مع الطفل الذي يضرب أخاه هو أن نراقب تصرفاتنا معه، ونمنحه وقتًا نوعيًّا يوميًّا باللعب والأنشطة المشتركة وتعزيز علاقة دافئة معه، تجعله يطمئن لمكانته عند والديه فتهدأ نفسه وتختفي رغبته الملحة في الضرب.
وهنا يأتي دور الوعي الذي تحتاج أن ترفع سقفه لديك لتزداد خبرات عقلك حكمةً ونضجًا، لتتحول حلولك لما يواجهك من عقبات إلى حلول جذرية حاسمة تقمع المشكلة من جذورها، فلا يعود لها صرير ولا تسمع لها أي صوت.
أما زيادة الوعي عزيزي القارئ، فتكون بمستشار خبير ناصح، أو كتاب جيد، أو مادة علمية رصينة متكاملة، ودعوني أنبه إلى أن ذلك لا يشمل تغريدةً خاطفة، أو رسالة واتساب جماعية ملفقة، أو تلك المقاطع ذات الثواني المعدودة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ فهي -إضافة لكونها مبتورةً من السياق- سريعة الاختفاء من الذاكرة!
وأخيرًا كما قال الأديب الراحل علي الهويريني رحمه الله:
"قصرك عقلك فاحفظْ قصرك..
لا يدخُلهُ ثرثرةٌ تبني شكلًا تغريك بأنك آيةُ عصرك!
فسفينك في بحرٍ لجّيٍّ مظلم والشكلُ زجاجيٌّ معتم..
فاجعل من عقلك رُبانًا يأتيك إلى قصدك..
واحذر أن ترمي عقلك في غيابة شكلك..
فالبحرُ عميقٌ قاعه والحوتُ طويلٌ باعه
شغولٌ لهومٌ يتنكّر في شكلك..
فاحفظ قصرك..
فقصرك عقلك".