الأثر كقيمة… لا كمرحلة

تم النشر في

كثيراً ما نربط الأثر بما يُرى، وبما يُقاس، وبما يمكن توثيقه أو الحديث عنه لاحقاً. نبحث عنه في الأرقام، وفي حجم المبادرات، وفي النتائج السريعة التي يمكن الإشارة إليها بسهولة. لكن بعض الأثر لا يظهر مباشرة، ولا يُلتقط في صورة، بل يترك أثره في شعور داخلي لا يُلاحظ إلا بعد حين.

هذا التصور للأثر يدفعنا للتوقف عند معناه الأوسع في حياتنا الإنسانية عموماً، فالأثر لا يتشكل فقط في المواقف الكبيرة، بل في طريقة تفاعلنا، وحضورنا، وما نتركه في نفوس الآخرين بعد كل لقاء. وقد يظهر الأثر بوضوح في مساحات مختلفة، من بينها العمل التطوعي، بوصفه أحد أبرز المجالات التي يتجسّد فيها هذا المعنى بشكل مقصود ومنظّم.

ومن هنا، يصبح من المهم أن نفهم الأثر بعيداً عن صورته الخارجية، وأن ننظر إليه من زاوية نفسية أعمق. ففي علم النفس، يُنظر إلى الأثر على أنه التغيّر الذي يطرأ على تجربة الإنسان النفسية أو السلوكية نتيجة تفاعل ما. وهذا التغيّر لا يشترط أن يكون كبيراً أو فورياً، فقد يكون بسيطاً وهادئاً، لكنه يستمر مع الإنسان لفترة أطول مما نتوقع.

هذا الفهم النفسي للأثر ليس جديداً، بل حاضر في القيم الإنسانية والدينية منذ وقت مبكر، حيث رُبط العطاء بما يتركه من أثر في نفس الآخر، مهما بدا بسيطاً. ويجسّد ذلك أحد الأمثلة النبوية في حديث النبي ﷺ: " تبسُّمك في وجه أخيك صدقة". وهو مثال واحد من منهج نبوي واسع وغني في صناعة الأثر الإنساني، زاخر بالأحاديث والمواقف التي تؤكد معاني الرحمة، واللطف، والإحسان، ويُظهر كيف يمكن لأبسط الأفعال أن تترك أثراً عميقاً ومستمراً.

ويتقاطع هذا المعنى مع ما تشير إليه النظريات النفسية الحديثة، التي تؤكد أن الأثر يكون أعمق وأكثر استدامة حين ينبع الفعل من دافع داخلي، لا من ضغط التوقع أو الرغبة في الظهور. كما يبرز مفهوم الأمان النفسي كعنصر أساسي في أي تجربة إنسانية، فحين يشعر الإنسان بأنه مقبول وغير مُقيَّم، يصبح أكثر قدرة على التفاعل، وأقل حاجة للدفاع أو التبرير.

وحين نترجم مفهوم الأثر إلى الواقع اليومي، نكتشف أنه حاضر في تفاصيل حياتنا المختلفة، سواء داخل العمل التطوعي أو خارجه. نراه في المعلم الذي يلاحظ توتر الطالب، فيبدأ بطمأنته قبل أن يصحح خطأه، فيمنحه شعوراً بالأمان قبل المعرفة. ونراه في الشخص الذي يختار الإصغاء بدل المقاطعة، وفي من يحترم صمت الآخر دون أن يضغط عليه بالكلام.

ويظهر الأثر أيضاً في بيئة العمل، حين يختار المدير أن يستمع قبل أن يوجّه، وأن يفهم الظرف قبل أن يصدر القرار، فيتحول الموقف من ضغط إلى مساحة تعاون. وفي الزميل الذي يقدّم دعمه بكلمة صادقة، أو بتخفيف عبء، دون انتظار شكر أو تقدير معلن. هذه المواقف قد تبدو عابرة، لكنها تترك أثراً نفسياً طويل المدى.

وفي سياق العمل التطوعي تحديداً، يظهر الأثر بصورة أوضح حين يُقدَّم العطاء دون فرض أو تقييم. في المتطوع الذي ينجز مهمته بهدوء، ويحترم إيقاع الآخر، ويترك له مساحة الاختيار. هنا لا يكون التطوع مجرد تنفيذ دور، بل مساحة إنسانية يشعر فيها الطرف الآخر بأنه مرحّب به، لا موضوعاً للفحص أو القياس.

ورغم ذلك، ما زال يُنظر إلى التطوع لدى بعض الأشخاص على أنه مرحلة مؤقتة، مرتبطة بالبدايات المهنية، أو وسيلة لبناء العلاقات، أو خطوة للوصول إلى فرصة وظيفية مناسبة. وبعد تجاوز هذه المرحلة، يعتقد البعض أنهم لم يعودوا بحاجة إليه. هذا التصور يختزل التطوع في بعده النفعي، ويتجاهل جوهره الإنساني، باعتباره أحد مسارات الأثر التي يمكن أن ترافق الإنسان في مختلف مراحل حياته، وبأشكال تتناسب مع خبرته ودوره.

ومع ذلك، من المهم التأكيد أن التطوع يبقى خياراً شخصياً حراً، يخضع لظروف الإنسان وطاقته ورغبته، ولا يُقاس به الالتزام الإنساني أو قيمة الفرد. فالعطاء لا شكل واحد له، ولا مساراً إلزامياً، وقد يظهر في مواقف كثيرة خارج الأطر التطوعية الرسمية.

هذا الفهم الأوسع انعكس أيضاً على مستوى التنظيم المؤسسي، حيث أسهمت الدولة في تعزيز ثقافة التطوع من خلال إنشاء منصات حكومية متخصصة، تسهّل المشاركة وتنوّع الفرص، وتربط العمل التطوعي باحتياجات المجتمع الفعلية. من بينها منصة التطوع الصحي، ومنصة التطوع التابعة لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، إلى جانب منصات وجهات أخرى تدعم العمل التطوعي في مجالات متعددة.

ومع هذا الاتساع في الفرص، يبقى جوهر الأثر مرتبطاً بطريقة حضورنا، لا بعدد الأدوار التي نشغلها. فصناعة الأثر لا تتطلب دائماً مبادرات ضخمة أو أدواراً رسمية، بل تبدأ من الوعي بطريقة تفاعلنا مع الآخرين، ومن احترامنا لإيقاعهم وحدودهم، ومن إدراكنا أن العطاء الحقيقي لا يفرض نفسه ولا يستعجل نتائجه.

حين نعيد تعريف الأثر بهذا الشكل، يصبح التطوع أحد مساراته الطبيعية، لا مرحلته النهائية، ويصبح لكل شخص القدرة على أن يكون جزءاً من صناعة الأثر، ولو بأبسط التفاصيل… ابتسامة صادقة، كلمة طيبة، أو حضور إنساني واعٍ.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org