الهيئة الوطنية لمكافحة المخدرات.. أما قبل!!
انتشرت منذ الأسبوع الماضي عبر شبكات التواصل الاجتماعي العديد من المعلومات المُبشِّرة حول وجود تحركات ضخمة ومشدَّدة لاحتواء آفة المخدرات من قِبل عدد من الجهات المعنية.
ومع ما صاحب ذلك من أخبار كثيرة إلا أننا فعلاً في أمسّ الحاجة والضرورة والسرعة لاحتواء تلك الآفة، والحاجة لوضعها في صلب الأجندة السياسية والتنموية لرؤية 2030.
ودعوني قبل أن أناقش عنوان مقالي في تشكيل هيئة مستقلة لمواجهة المخدرات أستعرض بعض الجوانب الجوهرية تجاه وضع المخدرات ومواجهتها في السعودية.
فالمخدرات آفة بالغة التعقيد والعصيان، وتمثل إحدى أهم المخاطر المهددة للأمن في السعودية، التي تسهم في تنامي معدلات الجريمة، كالعنف والقتل، وتؤصل للفساد وغسل الأموال والرشوة وشراء الذمم.. كما تضرب في عمق التنمية الصحية والاقتصادية والاجتماعية، وترهق خدماتها.
والأخطر من ذلك أن السعودية، بخلاف معظم الدول الأخرى، مستهدفة مباشرة من قِبل حكومات واستخبارات دول مجاورة وغير مجاورة، تتعمد محاولة إغراقها بالمخدرات كنوع من الحروب التي تهدف لزعزعة الأمن والنسيج الاجتماعي، وتدمير المراهقين والشباب من كلا الجنسين، الذين يُشكّلون الشريحة الأكبر في مجتمعنا، ورأس المال البشري للتنمية وتطويرها.
ولا أدل على استهداف السعودية من التنامي المهول للكميات المضبوطة التي لا مُقارب لها عالميًّا، وذلك من قِبل القطاعات الأمنية والجمركية وغيرها، عبر عمل نوعي ضخم.
ومن المتعارف عليه لدى دوائر مكافحة المخدرات في العديد من دول العالم أن ما يتم ضبطه من المخدرات لا يمثل سوى ١٠% تقريبًا مما يتم تهريبه.
في المقابل، تنقض مافيا المخدرات على سوق المخدرات والمؤثرات النفسانية بخيلها ورجلها من خلال صناعة مواد إدمانية جديدة.. فما بين عامَي 2009 و 2016 ظهرت 739 مادة جديدة من المؤثرات النفسية والعقلية عالميًّا، وذلك وفقًا للتقرير العالمي للمخدرات لعام 2017.
كما تُطور تلك المافيا طرق التهريب والترويج بأساليب مبتكرة غاية في المكر والدهاء، وتستغل بشكل فعال التواصل الرقمي، واستخدام شبكة الإنترنت المظلمة (Darknet) في الترويج لسمومها.
وفي بُعد آخر، تعاني السعودية شُحًّا في الأبحاث والمسوحات الوطنية المعنية بدراسة حجم مشكلة المخدرات، وأسبابها وتطورها، بما في ذلك قياس الضرر على البعد الأمني والصحي والاقتصادي والاجتماعي.. عوضًا عن تحديات الرصد والإحصاءات والبيانات الأخرى ذات العلاقة وتحليلها.
ومن المعلوم أنه لا يمكن تحديد الأولويات الاستراتيجية والسياسات والتدخلات الوطنية بطريقة منهجية مؤسسية دون وجود مثل تلك الأبحاث والبيانات، وخصوصًا أن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، الصادرة بقرار من مجلس الوزراء، لم تُحدَّث منذ صدورها عام 1429هـ؛ إذ لم يُشِر المركز الوطني للوثائق والمحفوظات إلى وجود أي تحديث عليها وفقًا للنسخة المنشورة على موقعه.
كما تعاني البرامج الوقائية من المخدرات، بما في ذلك البرامج التوعوية، تحديات جسيمة، منها محدودية الموارد والمُمكِّنات والقيادات المتخصصة في ذلك، مع ضعف التخطيط المبنيّ على البراهين لتلك البرامج.
وبقدر ما تبذل القطاعات الحكومية والأهلية من جهود ضخمة بالغة الأهمية إلا أننا لا يمكن أن نحقق الأهداف المرجوة منها دون برامج نوعية، تستهدف تمكين المجتمع وإشراكه في برامج المكافحة والوقاية والعلاج والتأهيل من خلال الجمعيات الأهلية.
ومن التحديات تعدُّد القطاعات المعنية بمكافحة المخدرات، وتحديات التنسيق والشراكة بينها، والازدواجية أحيانًا فيما بينها؛ إذ يتجاوز عدد تلك القطاعات العشرين قطاعًا حكوميًّا وأهليًّا وخاصًّا.
كما تواجه مكافحة المخدرات وطنيًّا تحديات تتعلق ببناء المزيد من القدرات الوطنية، وتأهيل العاملين بالمستجدات في مجال مكافحة المخدرات بتخصصاتهم كافة، الأمنية والصحية والاجتماعية.. وغيرها، مع الحاجة الماسة إلى صناعة وتأهيل المزيد من القادة المؤهلين في تلك التخصصات.
كما يستدعي العمل في مواجهة المخدرات تطوير نُظم العدالة الجنائية، واستحداث العقوبات البديلة وفق المنظومة الشرعية.
أما بالنسبة للقطاع الأمني والجمركي، ومنسوبوه أصحاب إنجازات ضخمة، فالمجال لا يزال لديهم واسعًا لمزيد من التطوير والاتقان عبر تيسير تبادل المعلومات بين القطاعات ذات العلاقة، بما في ذلك تعزيز قدرات الاستدلال الجنائي ونظم الإنذار المبكر الحالية، وتوفير مزيد من الأدوات والاستراتيجيات لتفكيك شبكات الجريمة المنظمة، بما في ذلك شبكات التهريب والترويج، وملاحقة المجرمين داخل السعودية، والعمل على تقليص مستويات الإفلات من العقاب.
وبلا شك، يشمل التطوير تعزيز قدرات الرصد والإبلاغ.
وبعد كل ما ذُكر عن التحديات الضخمة التي تواجه مكافحة المخدرات في السعودية فالمطلع على أهداف اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات، وكذلك اختصاصاتها التي وصلت إلى 25 اختصاصًا، وفقًا لتنظيمها، إضافة لبقية مواد التنظيم التي تستدعي من اللجنة أن تكون جهة إشرافية وتنسيقية وتطويرية، وتوفير خدمات محددة.. سيعلم يقينًا، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنها تفوق بمراحل قدرات ومُمكّنات أي لجنة وطنية.
ومن ثَمَّ، ووفقًا للمعطيات السابقة كافة، ومن منطلق رؤية 2030 وتوجهاتها العامة، أعتقد أنه آن الأوان لدراسة مدى إمكانية تحويل اللجنة الوطنية إلى هيئة إشرافية تنسيقية، ترتبط بمجلس الوزراء، وتمتلك الموارد والصلاحيات والمُمكّنات كافة؛ بما يسهم بشكل كبير في مواجهة التحديات الضخمة لحربنا ضد المخدرات.
أخيرًا، بلا شك هناك جهود ضخمة تقوم بها القطاعات؛ يُشكرون عليها، لكنها بحاجة لمزيد من الحوكمة والشفافية، والرصد والتقييم، وكذلك الدعم السياسي والتمويل، والعمل المؤسسي الاستراتيجي، التنسيقي والتشاركي، الذي يمكن أن يتم من خلال تلك الهيئة المستقلة.
وحقيقة، متفائل جدًّا بالقادم في ظل ما نشهده من حراك فعال مؤخرًا، واهتمام مباشر من القيادة الرشيدة.