يظهر بين الحين والآخر عددٌ من الأطباء والممارسين الصحيين في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ليفتوا في الحجامة بما لا يعلمون، ولينفوا مطلقًا أي تأثير لها!! وللنقاش حول هذا الموضوع الجدلي بين الممارسين الصحيين دعوني أضع عددًا من الأسس كمنطلق للنقاش.
أول هذه الأسس أننا نحن الأطباء والممارسين الصحيين تعلمنا، كما تعلم معظم الأطباء في العالم، وفق مدرسة الطب الغربي (Western Medicine)، وأصبحنا نحصر معلوماتنا ومنظورنا ومُسلَّماتنا للطب وفق تلك المدرسة. وهي، وإن قدَّمت نجاحات عالية غير مسبوقة في العديد من المجالات الصحية، لكنها عجزت في مجالات أخرى. ولعل أبرز جوانب ضعف هذه المدرسة أنها طبٌّ قائم على المنظور المادي الجسدي، الإلحادي في نظرته للكون والطبيعة؛ وبالتالي ينكر تمامًا تأثير الروح على الجسد، وحدوث السحر، والعين، وتأثير الإيمانيات، وغيرها. ووصل بعض الممارسين إلى مرحلة التشدد والإرهاب الصحي؛ فيرى الطب الغربي علمًا مطلقًا، لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا! وغيره خطأ بواحًا.
كما يتصف هذا الطب بنظرة استعلاء ونكران للعديد من ممارسات الطب الشعبي أو الطب التكميلي (مع أنه بدأ على استحياء في الاهتمام بذلك قبل بضعة عقود). وفي اعتقادي إن أحد الأسباب الرئيسية في عدم الاهتمام بالطب الشعبي يعود لشركات الأدوية العالمية، التي تركز على دعم الأبحاث الطبية المتوقع أن تكون لنتائجها مردود مال عالٍ، يتضمن امتلاك براءات اختراع، تحتكر فيه نوعية الأدوية أو الأجهزة أو المواد المكتشفة. ولكون معظم الطب الشعبي قائمًا على ممارسات يدوية، أو أعشاب متوافرة في معظم دول العالم، فما الذي يدعو تلك الشركات للاستثمار فيه؟ ولتقريب الفكرة، ما الذي يدعو شركات الأدوية للاستثمار في دعم أبحاث الحجامة إذا كان رأس مالها شراء مشرط وأكواب حجامة؟!!!
وهناك قاعدة علمية مهمة، لم نتعلمها في مدارس الطب الغربي وأبحاثه، بدأت تظهر في العلوم الحديثة كعلم "الفيزياء الكمومية"، لكنها قبل ذلك هي قاعدة شرعية، تقول "عدم العلم بالدليل (أي البرهان) ليس علمًا بالعدم، وعدم الوجدان (وجود البرهان) ليس نفيًا للوجود". وبالتالي عندما يخرج بعض الممارسين ويجزم ويقطع بعدم فائدة الحجامة لعدم وجود براهين حولها فهذا ليس دليلاً على عدم فائدتها، فقد تكون الفائدة موجودة لكن لا توجد دراسات علمية موثوقة حولها (كما سيأتي لاحقًا)، كما أن نفي فائدتها يحتاج لإثبات.. فهل هناك دراسات متعددة وذات جودة عالية تثبت عدم جدواها مطلقًا؟ الجواب لا!!
والمؤسف أنه لا يتوافر للأبحاث المعنية بالحجامة التمويل الكافي كما هو الحاصل مع أدوات وطرائق العلاج في الطب الغربي. والمتتبع للأبحاث المتعلقة بالحجامة، وتحديدًا "المراجعات المنهجية"، يجد أن معظمها يصل لمحصلة بانخفاض جودة الأبحاث المعنية بالحجامة؛ وبالتالي لا يمكن استخلاص استنتاجات نهائية، وتوصي بإجراء أبحاث ذات جودة عالية. ولعل أبرز جوانب البراهين الواضحة كانت في تخفيف الحجامة بعض أنواع الألم، وهو ما يشير إليه المركز الوطني الأمريكي للطب التكميلي والتكاملي (NCCIH).
كما أن على الممارس الصحي، عندما يتحدث عن الحجامة، أن يعي ويستحضر أيضًا أنها ممارسة تدخل في مجال الطب التكميلي والتكاملي (Complementary and Integrative Medicine)، ومصرح بممارستها، وفق ضوابط وشروط، لدى العديد من الدول، منها السعودية وبريطانيا والصين والهند واليابان، وعدد من دول أمريكا اللاتينية، وغيرها.
وبُعد آخر مهم في ذلك، فنحن المسلمين لدينا براهين نبوية واضحة، بأحاديث قطعية، لا شك فيها، أن الحجامة نوع من التداوي. ويمكن الرجوع للأحاديث الصحيحة في مظانها بكتب الحديث النبوي. أما كيف يحدث ذلك؟ وما هي الأمراض التي تعالجها؟ فهنا يأتي دور المراكز البحثية في دولنا الإسلامية، والمقصِّرة معظمها بشكل واضح في ذلك!!
والمحصلة النهائية أن على الممارس الصحي أن يدرك عند نقاش بعض الممارسات الطبية التي لم تُبحث وتُدرس جيدًا في المدرسة الطبية الغربية، لكنها مصرحة في العديد من الدول وفق ضوابط محددة، بما يضمن أنها لا تمثل تهديدًا لسلامة المرضى، ولها بُعد معرفي وممارسة منذ آلاف السنين لدى العديد من الشعوب، أنه يجب ألا يقفز للنفي المطلق، وخصوصًا في ظل وجود براهين نبوية لها، بل الأولى تقديم المعلومة للمريض كاملة غير مجتزأة وفق المعطيات التي ذكرتُها سابقًا؛ لنضمن أن المريض يقوم باتخاذ قراره بناء على ما يتوافر من معلومات حول تلك الممارسة، وليس برأي متحيز للنفي المطلق لها.
كما يتردد بكثرة تساؤل لدى العديد من الناس، يتعلق بمقارنة الحجامة مع التبرع بالدم. وهنا أيضًا يقفز بعض الممارسين جازمًا بأنهما سواء دون وجود البرهان!! ووفقًا لأسس الحجامة ومبادئها فالحجامة قائمة أساسًا على تحديد نقاط معينة في الجسم، تختلف باختلاف العَرَض المَرضي. ويجب أن تتم الحجامة على هذه النقاط لإحداث الأثر العلاجي للمرض؛ وبالتالي آلية التبرع تختلف عن ذلك المنظور. وهنا لن أقول للمريض إنهما سواء، ولكن سأقول له بعدم وجود أبحاث حتى الآن تثبت أو تنفي ذلك، وأترك الخيار له. مع التشديد على إجراء الحجامة على يد مختص حاذق في مركز مُصرَّح له.
أخيرًا، سبق أن دعوتُ إلى أن يعيد المركز الوطني للطب البديل قراءة استراتيجيته؛ لتتضمن إجراء أبحاث عالية الجودة حول العديد من الممارسات الطبية التي وردت في السُّنة النبوية، وكذلك الممارسات الطبية الشعبية، وأن يكون ذلك من أولى الأولويات في الاستراتيجية؛ وهو ما يحتاج إلى إدراك وقناعة من قِبل قيادات وزارة الصحة بذلك، وتخصيص الموارد الكافية.