غزة في أنفاق السقوط الغربي!
لن نبدأ بجدليات الإدانات لتحديد المسؤول عن مأساة غزة، التي علّقتها إسرائيل على مشانقها، لأن هذا لن يجدي في ظل التشابكات المعقدة للمشهد العالمي، وفي ظل استمرار النزيف اليومي الذي يوغر جراحَه أزيزُ الطائرات وعويلُ الصواريخ والغارات وأصوات المدافع على يد آلة الحرب الإسرائيلية البربرية، وسط أنّات الثكالى وصراخ الأطفال الذين سقط منهم وحدهم ٥٠٠٠ طفل ذُبحوا بدم بارد، وتقطعت معهم نياطُ قلوبنا أسىً وحسرة عليهم!
لم تكن الدهشة في هذه (التراجيديا السوداء) من حجم هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم، فـ "تلك شنشنة عَقَديّة نعرفها من العقلية الصهيونية" المتربصة بفلسطين منذ اتفاق بازل بسويسرا عام 1897م، بل كانت الدهشة من ذلك السقوط الأخلاقي المُريع للموقف الأمريكي والدول التي تسير في ركابها، بعد أن مَنحت إسرائيل "حق الدفاع عن نفسها" رافضة أي مشروع قرار في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، وكأن الهدنة الإنسانية المؤقتة وفتح الممرات الآمنة هما غاية طموحها، التي تَمنح من خلالها إسرائيلَ الضوءَ الأخضر لإمعان آلتها الحربية والولوغ في دماء المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال، لأن (إسرائيل في حالة دفاع عن نفسها) كما يزعمون!، وكأن الفلسطينيين هم مَن احتلوا أرضها منذ 75 عاماً، وهم مَن هجّروا شعبها وفجّروا أبناءها بالقنابل الفوسفورية أو العنقودية الصفراء.. يا للهول!!
إن امتحان غزة كان مستنقعاً آسناً لسقوط الإرادة الغربية والأمريكية وانحرافها عن بوصلة القانون الدولي، بما يجسّد حجم التدهور السريع لدلالات النصوص المعلنة من القانون الدولي في الوعي الجمعي العالمي على مدى عقود قادمة.
فماذا تنتظر شعوب العالم من دول تفاخر بازدواجية معاييرها وانحيازها السافر للمعتدي الذي تنأى به عن (شبهة) اختراق القانون الدولي، ماذا تنتظر من دول جعلت من هذا القانون مظلة لحماية مصالحها بعيداً عن أخلاقيات وقيم ذلك القانون؟
إن ما حدث ويحدث في غزة هو أكبر من ردة فعل على هجوم حماس في السابع من أكتوبر الماضي، ويؤكد ذلك هذا القصف العشوائي القاسي الذي يستهدف تطبيق سياسة الأرض المحروقة، دون اعتبار للقوانين الدولية (المزعومة) ولا لاتفاقيات جنيف التي نظّمت علاقة الدول مع بعضها وحمت المدنيين عند الحرب من القتل أو التهجير، كما يؤكده ما أعلنه نتنياهو؛ حول نية إسرائيل تغيير خريطة المنطقة، وما أعلنه وزير التراث الإسرائيلي المتطرف عميحاي إلياهو؛ حين قال ببذاءة: "إلقاء قنبلة نووية على غزة هو حل ممكن، وبالنسبة للمختطفين، فالحرب لها أثمان، وقطاع غزة يجب ألا يبقى على وجه الأرض، بل علينا إعادة بناء المستوطنات فيه"!!، وكيف نستغرب تلك البربرية الشيطانية ممّن قال وزير دفاعهم غالانت؛ "إن الفلسطينيين حيوانات بشرية"؟
إذن وفي ظل هذه المعطيات، نحن أمام أزمة إنسانية ومعركة عسكرية وبداية لمشروع سياسي جديد، نحن أمام خريطة طريق مفخخة، في ظل الخسائر الفادحة التي يتم تسجيلها يومياً.
حتى لا يبقى الفلسطينيون في أودية الاستصراخ والمآسي، فإن المطلوب هو تفعيل وتعميق الموقف العربي عامة بعد أن قادت السعودية بالأمس ذلك التوافق العربي في عمّان خلال لقاء وزراء الخارجية مع وزير الخارجية الأمريكي بلينكن.
لقد أثبت تاريخ المعادلات السياسية السابقة في الصراع العربي الإسرائيلي أن أي توافق لا يستند إلى قرارَي مجلس الأمن 242، و338 في عودة الحقوق وإقامة الدولة الفلسطينية لن يكتب له النجاح، ولن يحقق الأمن لإسرائيل ولا للمنطقة بأسرها.
ولطالما كانت أحداث السابع من أكتوبر الماضي هي حجر الرحى في المعادلة السياسية الحالية، فإن قراءة المشهد في سياقاته الطبيعية وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية تنادي بضرورة أن يعلو صوت العقل في هذه المرحلة، حتى يتوقف نزيف الدماء، فالأمر لا يحتاج إلى خطابات ولا رفع شعارات أو مد عضلات الحناجر بالتنظيرات التي سئم منها الشعب الفلسطيني.
الأمر لا يحتاج الى أن تبقى هذه القضية العادلة محجاً للطامعين والمتسلقين والمنظّرين.
الأمر يحتاج الى أن يعلو صوت العقل بالتنادي الى ضرورة (وقف فوري) لإطلاق النار، وليأتي بعدها تنظيم الوضع وفق القانون بالعودة الإلزامية الى مبادرتَي السلام العربيتين اللتين أُطلقتا في قمة فاس عام 1982 وقمة بيروت عام 2002م، من قِبل الملك فهد، والملك عبد الله -يرحمهما الله-، بهدف إنشاء دولة فلسطينية على حدود 67 مع عودة اللاجئين والانسحاب من الجولان، مقابل التطبيع مع إسرائيل.
فهل تعي إسرائيل ومَن يسير في ركابها خطورة المنقلب؟
هل يدركون أن إبادة الشعب الفلسطيني بدعوى تدمير حماس لن تكون حائط صد لتحقيق أمن إسرائيل؟
هل يعون أن استمرار الحرب يعني تهيئة جيل جديد من (أطفال المآسي) في غزة والضفة الغربية ستكون قلوبهم وعقولهم مترعة بدافعية الانتقام على مدار العقود المقبلة من هول ما رأوه من مجازر دموية وتصفيات نُفذت أمام أعينهم بحق آبائهم وذويهم من المدنيين العزّل، في مشاهد دامية تذوب لها القلوب من كمدها؟
هل يعون أن تراكمات العقود السبعة الماضية وضعت الفلسطينيين على فوهة بركان ساخن سيكون انفجاره أصعب؛ إن لم يتم تدارك الوضع الآن، في ظل المطاحن الهمجية التي تنفّذها إسرائيل في حقهم.
وأخيراً نقول: إن الدم الفلسطيني والدم العربي عموماً لن يكون يوماً أرخص من دماء الآخرين ممّن تخرج أمريكا والسائرون في ركابها من الدول الغربية بقضّهم وقضيضهم لنصرتهم، وأن الاختلاف مع أي من المكونات الفلسطينية لا يعني بحال من الأحوال استرخاص الدم الفلسطيني أو شرعنة استباحته أو التوقف لحظة عن المطالبة بحقوقه المشروعة.
ونقول لإخواننا وأهلنا في غزة، ما قاله الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.