يوسف في المكتب.. حين تتحول الكفاءات إلى تهمة!

تم النشر في

حين تقرأ قصة يوسف عليه السلام من منظور إداري، تكتشف أن المكايدة في بيئة العمل ليست ظاهرة طارئة، بل سلوك بشري موغل في التاريخ.

يوسف، الشاب الطموح وصاحب الرؤية، لم يكن مقبولًا في محيطه فقط لأنه مميز، بل كان مرفوضًا لأن تميزه فضح تقاعس الآخرين. رأوا فيه تهديدًا مبكرًا لمكانتهم، فقرروا إبعاده. لا لأنه أخطأ، بل لأنه تفوّق.

في إدارات اليوم، كثيرون يشبهون يوسف. لا يبحثون عن الصدام، بل عن مساحة عمل نظيفة تتيح لهم الإبداع. إلا أنهم كثيرًا ما يُستهدفون بالتشكيك، ويُتهمون بالأنانية أو “حب الظهور”، فقط لأنهم يعملون بجد. تتحوّل الكفاءة في بعض المؤسسات إلى تهمة، ويصبح الطموح مصدر قلق، لا مصدر إلهام.

هناك من تُغلق في وجوههم الأبواب عمدًا، ويُمنعون من تقديم أفكارهم، وتُختزل إنجازاتهم في عبارات باهتة، وكأن الهدف هو كسر نفَس المحاولة فيهم. فبدل أن تكون بيئات العمل مناخًا للتشجيع، تتحول أحيانًا إلى مسرح للتصفيات الناعمة، أو ميادين لصراعات صامتة، ظاهرها التنظيم وباطنها الإقصاء.

قصة يوسف لا تنتهي عند الظلم، بل تبدأ من هناك. لم يرد الكيد بالكيد، ولم يساوم على مبادئه، بل صبر، وارتقى، وحين أُتيحت له الفرصة، لم يتقدّم إلا وهو يحمل مؤهلاته بوضوح واعتزاز: “اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.” لم يطلب المنصب توددًا، ولا جاهًا، بل لأنه أهل له. وضع نفسه حيث يستحق، دون أن يلتفت لمن حاولوا إطفاء نوره.

في المقابل، نجد من يشغلون مواقعهم اليوم لا بحكم الكفاءة، بل بعلاقاتهم أو قدرتهم على مجاراة مناخ الاصطفافات داخل الإدارة. يغيب الإنصاف، وتُدار المؤسسات بمزاج لا بمنهج، وتُقدَّم الولاءات على الكفاءات.

والنتيجة، أن “يوسف” يغيب، وتضيع معه سنوات من التقدّم المحتمل.

رغم كل ذلك، تظل القصة ملهمة، لأن النهاية لم تكن لإخوة يوسف، بل له. حين تمكّن، لم ينتقم، ولم يُقصِ أحدًا، بل قال: “قد منّ الله علينا.” وهنا ذروة الأخلاق الإدارية، حين لا يُفسدك المنصب، ولا تُغريك السلطة، بل يظل هدفك هو الإصلاح.

لكل من يعيش هذا الواقع في بيئة عمله، لا تيأس. فإن كانت الكفاءات تُحارب اليوم، فإن التاريخ لا يحفظ إلا أسماء أولئك الذين عملوا بإخلاص، وثبتوا على مواقفهم. المناصب لا تصنع الرجال، بل الرجال هم من يصنعون المنصب، و”يوسف” كان أحدهم

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org