عطونا عيدية!!

العيد موسم فرح، يعانق النفوس، ويسعد الوجدان، ويمسح الأحزان، ويجدِّد في دواخلنا الرغبة في العيش، ويمنحنا فرصة أن نحلم بغد أفضل.. فيه يرتدي الناس أفضل ثيابهم، ويتناسون خلافاتهم، ويتجاوزونها، ويقبلون على بعضهم بالمصافحة والعفو.

ومما يزيد هذه الأيام روعة أن الإحساس بجمالها يبدأ قبل قدومها؛ إذ يستغرق الجميع في ممارسة طقوسهم المحببة التي يتفق معظم المسلمون على تفاصيلها الأساسية، مثل شراء الملابس الجديدة، وتحضير الحلوى اللذيذة، وتنظيف المنازل وتهيئتها لاستقبال الضيوف المهنئين بهذه المناسبة السعيدة.

ومن الطقوس الجميلة المميزة التي ارتبطت بالأعياد "العيدية"، وهي مبلغ مالي، يهبه الكبار للصغار من الأبناء والأقارب والجيران، وهي من الوسائل التي ترسم الابتسامة على محياهم، وتُدخل الفرحة إلى قلوبهم؛ لذلك تحولت "العيدية" إلى ذكرى عطرة، لا تفارق وجدانهم وصورتهم الذهنية عن العيد.

هذه العادة المحببة لا تقتصر على بلد دون آخر، أو على فئة معينة من الناس، ولا ترتبط بوضع مادي، بل إن الدول العربية والإسلامية كافة تعرفها، وتمارسها.

وما زلتُ أذكرُ عندما سافرتُ قبل سنين طويلة بصحبة أهلي وأنا طفلة صغيرة إلى مصر، وقضينا العيد هناك. كنا في زيارة لإحدى المحافظات، وكان أغلب أهلها من محدودي الدخل الذين لا يملكون سوى قوت يومهم، وبالرغم من معاناتهم وفقرهم فقد لفت انتباهي أن الكل يعايد بعضهم، من أصغر طفل إلى أكبر شيخ.. وكان ما يقومون به أشبه بعملية تدوير، وكان مبلغ العيدية يتفاوت بحسب الاستطاعة، لكن الجميع كان يحرص على المشاركة في تلك العادة بأي مبلغ من المال، حتى ولو بجنيه واحد فقط. المهم هو إدخال الفرحة في قلوب الجميع. ومما لا زلتُ أذكره أنه حتى النساء الأرامل كن يحرصن على المشاركة؛ لذلك كان المشهد في غاية الروعة والجمال، وظل حتى هذه اللحظة عالقًا بذاكرتي.

منذ ذلك الوقت ظللتُ أحافظ على المشاركة في رسم البهجة على وجوه الصغار والكبار بتقديم "العيدية".. ويتملكني فرح غامر وكأنني ما زلت طفلة عندما أتسلمها من أي شخص. ولا يختلف مقدار فرحتي بالعيدية حسب قيمتها؛ فمهما كانت قليلة في ثمنها فهي غالية في معناها، وعزيزة على قلبي.. لا أشغل نفسي كثيرًا بالتفاخر بما أقدمه للآخرين أو أتلقاه منهم، وليس ضروريًّا أن تكون من أغلى الماركات، أو أن أتفنن في تغليفها وأسابق غيري بشكلها وزخارفها؛ فالمهم هو التعبير والمبادرة.

إصرار أولئك البسطاء على المشاركة هو مؤشر على ثقافة راسخة في نفوسهم، وهي الحرص على جلب الفرح وصنعه، وعدم الركون إلى الظروف الصعبة والتعلل بها.. وهي ثقافة في منتهى الرقي والسمو؛ لأن الفرح عزيز، وله مفعول السحر على نفوسنا، وهو من أسباب السعادة والإحساس بالبهجة.. وإن لم نتمسك به، ونجتهد كي نزرعه في دوخلنا، فسوف نعيش حياتنا كلها في شقاء وتعاسة؛ لذلك فإني أشعر بالرثاء لحال بعض أصحاب الرؤية السوداوية، الذين يشيعون أن حياتهم خالية من دوافع الفرح لظروف خاصة مرت بهم، كموت عزيز، أو فقدان وظيفة، أو فراق حبيب.. فهؤلاء استسلموا لفخ الأحزان، ووضعوا أنفسهم في دائرته الجهنمية.

دعوة أُوجِّهها من صميم قلبي للجميع؛ كي ننتهز هذه الفرصة، ونغسل ما علق بدواخلنا من أتراح، ونستقبل أيامنا بالأفراح، ونتجاوز لبعضنا عن زلاتهم، ونغفر إساءاتهم، وننظر إلى أنفسنا وغيرنا ومستقبلنا بعين التفاؤل والرضا.. فهذه الحياة التي نعيشها قصيرة، ولا تستحق الحزن أو الأسف.

لإخوتي في هذا الوطن العظيم، أوجه التهاني الصادقة بهذه المناسبة السعيدة، راجية أن يأتي العام الجديد ومملكة الشموخ بألف خير، ورايتها عالية خفاقة، ترفرف في عنان السماء؛ فهي راية الإسلام التي تحمل كلمة التوحيد والحق.

ودعواتي موصولة للمسلمين في أنحاء الأرض كافة بأن يديم الله عليهم نعمة الأمن والسلام.

Related Stories

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org