

لم يعد العمل التطوعي في بلادنا مجرد ممارسة خيرية عابرة؛ بل أصبح أسلوب حياة وصناعة إنسانية تلامس روح الفرد، وتنعكس على الأسرة، وتتسع آثارها لتصل إلى المجتمع والوطن. فحين يعطي الإنسان من وقته وجهده بلا مقابل، فإنه في الحقيقة يمنح جزءًا من ذاته؛ ليبني حياة أكثر اتزانًا ووعيًا، ويُعيد تشكيل علاقته بالآخرين وبالوطن على أسس من الرحمة والانتماء والمسؤولية.
على مستوى الفرد، يزرع التطوع في الإنسان قيمة لا تُشترى: الشعور بالجدوى. فالذي يهب وقته لمساعدة الآخرين، يعود وقد ساعد نفسه أولًا؛ إذ تتشكل لديه مهارات جديدة، ويزداد اتزانه النفسي، ويتعمق إحساسه بأنه عنصر فاعل في الحياة، قادر على التغيير والإسهام. وهذا الشعور بالمسؤولية لا يقدّر بثمن، لأنه يرافق الإنسان في كل مجالات عمله وحياته.
وفي إطار الأسرة، يصبح العمل التطوعي لغة تربوية راقية. فالطفل الذي يرى والده أو والدته يساهمان في خدمة المجتمع، ينشأ على قيم البذل، والمشاركة، واحترام الوقت، وتقدير النعمة. الأسرة التي تتطوع، تتعلم كيف تكون يدًا واحدة، وكيف تبني وجدانًا مترابطًا لا ينفصل عن قضايا المجتمع. ومن هنا، يتحول التطوع إلى “مدرسة” تُخرّج أبناءً صالحين، يحملون في قلوبهم بذور الخير قبل أن يخرجوا إلى الحياة العامة.
أما على مستوى المجتمع، فالتطوع يعزز روح التماسك، ويخلق بيئة اجتماعية قادرة على التصدي للتحديات. حين يتطوع الناس في مبادرات بيئية أو صحية أو اجتماعية، فإنهم يعيدون رسم ملامح مجتمع متعاون، لا يترك فردًا خلفه. المجتمعات المتطوعة هي المجتمعات الأكثر قدرة على التقدم، لأنها مبنية على الشراكة لا على الفردية، وعلى العطاء لا على الانتظار.
وعلى مستوى الوطن، يأتي التطوع بوصفه ركيزة من ركائز “رؤية السعودية 2030”، التي رفعت عدد المتطوعين من آلاف محدودة إلى أكثر من مليون متطوع في سنوات قليلة، وجعلت من العمل التطوعي قطاعًا مؤسسيًا وداعمًا للنمو الوطني. ففي دولة الرؤية، لم يعد التطوع خيارًا، بل أصبح مؤشرًا حضاريًا وهدفًا استراتيجيًا، لأنه يعكس مدى وعي المجتمع وقدرته على المشاركة في التنمية، ويسهم في بناء اقتصاد مستدام، ومجتمع قوي يقوم على التكافل.
وللناشئة على وجه الخصوص، يقدّم التطوع دروسًا لا تُنسى. فهو يغرس فيهم قيم الانتماء، ويعلمهم معنى المسؤولية، ويمنحهم فرصة ليمارسوا دورهم الحقيقي كمواطنين مشاركين في النهضة الوطنية. إنهم الجيل الذي سيحمل الراية، ولذلك فإن غرس قيمة العطاء في نفوسهم اليوم هو استثمار في مستقبل الوطن كله.
إن المملكة لا تحتفي بالمتطوعين فحسب، بل تبني منظومة تجعل التطوع جزءًا من هوية المواطن السعودي.
ففي هذا الوطن، العطاء ليس مجرد مبادرة… بل هو طريق يُمهد لمجتمع أقوى، ووطن أبهى، ومستقبل يليق برؤية تمتد إلى 2030 وما بعدها.