استحوا قليلاً يا هؤلاء!!
كلمات كثيرة ظللنا نرددها بتلقائية طيلة حياتنا عن فضل المعلم؛ باعتباره أهم عناصر المنظومة التربوية، وأولى الركائز لإيجاد أجيال مسلحة بالعلم والمعرفة.
فالمعلمون الذين يأخذون بأيدي الشباب والناشئة، ويتولون تعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم، يقومون بأدوار هي في الأصل من مهام الأنبياء والرسل، وهو ما جسده أمير الشعراء أحمد شوقي بقوله "قُمْ للمعلم وفِّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا".
لكن -للأسف- كل هذه القناعات الراسخة بدأت تتزعزع، وأخذت الصورة الناصعة التي نحملها عن المعلمين والمعلمات تهتز في أذهاننا، وأصبحنا نسمع في أحايين كثيرة عن طلاب يعتدون على أساتذتهم بالضرب داخل حرم المدارس أو خارجها، كما أن كثيرًا من وسائل الإعلام باتت تتطاول على المعلمين، وتصفهم بأوصاف لا تليق بمن حملوا على عاتقهم مسؤولية تربية أبنائنا وبناتنا، وتهيئتهم لمستقبل مشرق.
خلال الأسبوع الماضي ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر عن طفلة تعرضت إلى "مزاح ثقيل" من معلمتها التي سألتها عن ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ وعندما أجابت الطفلة بأنها سوف تصبح طبيبة أسنان ضحكت المعلمة من حديثها وسألتها كيف تريد أن تصبح طبيبة أسنان وأسنانها مكسورة؟
نعم، ربما كانت كلمات المعلمة تحمل قدرًا من القسوة التي لم تحتملها الطفلة البريئة التي انخرطت في البكاء، لكنّ كثيرين تلقفوا تلك الحادثة، وقاموا بتصويرها على أنها نوع من التنمر، وأطلق مَن يبثون غثاءهم على وسائل التواصل سهام نقدهم القاسي على المعلمة التي قطعًا لم تحسن اختيار كلماتها بحسن نية، بل إن كثيرًا منهم تطاول عليها بألفاظ غير لائقة.
وليت الأمر توقف عند ذلك بل إن بعض الوسائل الإعلامية نقلت عن الطفلة قولها إن المعلمة تهكمت عليها بسبب الغيرة منها.
فبالله عليكم، هل يُعقل ذلك؟ وهل هناك معلمة يمكن أن تشعر بالغيرة من طفلة بريئة؟ وكيف ستكون طريقة تعامُل تلك المعلمة مع طالباتها في المستقبل؟
وأكرر مرة أخرى: إن تصرف المعلمة مع الطفلة كان غير مناسب، وكانت كلماتها غير لطيفة، لكن ذلك لا يصل لدرجة التنمر، وهو تصرف بحسن نية بدون أدنى شك؛ لذلك فإن ما تعرضت له المعلمة من انتقادات جارحة وأوصاف غير لائقة هو الذي وصل إلى مرحلة التنمر.
ودعوني أتساءل: من قال إن المعلمين والمعلمات لا يخطئون أو يجانبهم الصواب في بعض تصرفاتهم؟ من قال إنهم معصومون؟ أليسوا بشرًا مثلنا؟ حتى الآباء والأمهات هل هم على صواب دائمًا في طريقة تعاملهم مع أبنائهم؟ ألا توجد حالات كثيرة من التعنيف المنزلي التي وصلت إلى حد تدخُّل الجهات الرسمية؟ فإذا كنا نغفر لوالدينا زلاتهم وأخطاءهم فمن باب أولى أن نتسامح مع معلمينا الذين لا يقلون في رسالية دورهم عن الآباء والأمهات.
لهؤلاء المتجاوزين أقول إن المعلمين والمعلمات هم أساس العملية التربوية والتعليمية، وصيانة صورتهم وتوقيرهم واحترامهم هي عوامل ضرورية لتمكينهم من أداء رسالتهم السامية للنهوض بالأمة من خلال شبابها وأبنائها، إلا أن ما يتعرضون له في كثير من الأحيان من إساءات واعتداءات تسبَّب في حدوث شروخ وفجوات في دواخلهم ونفسياتهم؛ وهو ما سيؤثر حتمًا في جودة المخرجات النهائية.
ما حدث يؤكد أننا نواجه كارثة تربوية بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، وهو ما ينبغي التصدي له بما يستحق من اهتمام، وإذا لم يتم التعامل الصارم مع كل من تسول له نفسه الاعتداء قولاً أو فعلاً على المعلمين والمعلمات، أو يتجاوز مقاماتهم، فلنقل على مستقبل أجيالنا السلام؛ لأن من لا يتمتع بالاحترام الكافي والتقدير الذي يستحقه لن يكون قادرًا على منحهما للآخرين.